ليوناردو دافنشى


إهتمامات متعددة ومواهب فذه وتوافق مذهل بين الفكر والإتزان تضافرت كلها لتجعل من ليوناردو دافينشى عبقرية شبه عالمية 

ترى هل هو حكيم أم فيلسوف أم فنان ؟ 
إن الذى لا شك فيه أنه مزيج رائع من الثلاثة معا فتلك هى الصورة التى رسمها ليوناردو دافينشى لنفسه وهو فى 60 من عمره ونفذها بالطباشير الأحمر فى حوالى عام 1512 وهى الصورة الوحيدة التى لدينا للهيئة الطبيعية لهذا الفنان وإن كان هذا لا يمنع من أن تكون هناك بعض صور آخرى رسمها لنفسه وأدمجها فى بعض مؤلفاته ومما تجدر ملاحظته كذلك أن كل صور ليوناردو وهى تختلف كثيرا عن اللوحات الآخرى التى أحتلت مكانها بين الأعمال الكلاسيكية للقرن 16 تنبئ بطريقة مدهشة عن مستقبل لفن تعبيرى أكثر أنطلاقا .
ولد هذا الفنان فى فينشى بالقرب من فلورنسا فى يوم 15 أبريل 1452 وكان سببا فى شهرة مسقط رأسه شهرة لا تدانيها شهرة أكبر العواصم ولو أن العبقرية فى حالتها الخام لا هى عبقرية علمية عادية ولا هى عبقرية فنية بحته لو أن لها وجها فلا شك فى أنه سيكون وجه ليوناردو دافينشى كما صوره بنفسه وهو فى 60 من عمره فإن دهشتنا لغزارة الصفات والمواهب التى تميزت بها تلك الشخصية لتتضاءل عندما نتأمل تلك اللوحة الرائعة التى صورها لنفسه بالطباشير الأحمر والمحفوظة الآن بتورينو والتى نشعر أمامها بنفاذ النظرة التى تشع من عينيه والتى تجذب الزائر ونحن بعد هذه النظرة المتأملة لابد أن نتساءل :
هل من الممكن أن ليوناردو دافينشى هذا كان طفلا ثم مراهقا ؟ 

  • مرحلة الشباب فى فلونسا 

ربى الطفل ليوناردو فى منزل أبيه وتلقى تعليما جيدا حتى سن المراهقة عندما ألتحق فى فلورنسا بمرسم فيروتشيو الشهير الذى صار أستاذا له فى المجال الفنى ومع ذلك فإنه مما يدعو للعجب أن هذا الشاب المثقف فى عصر النهضة لم يكن يعرف اللاتينية وكان يصف نفسه بقوله إنه "رجل بدون ثقافة أدبية" ومع ذلك فإن هذا الوصف لا ينطبق على تلك الشخصية التى كتبت كثيرا وقرأت العديد من مؤلفات معاصريها ومؤلفات الأقدمين التى نشرت بالإيطالية وقد أستخلص الدارسون لشخصية دافينشى من واقع ذوقه وميوله للرسم والتخطيط أنه كان فنانا يتردد كثيرا فى أستخدام الكتابة وقد يبدو ذلك صعب التصديق عندما نستعرض مخطوطاته التى لا تقتصر على الرسوم ولكنها تشتمل كذلك على أعداد لا حصر لها من الملاحظات التى أمكن من خلالها التعرف على آراء هذا الرجل العظيم فيما يختص بالعديد من الموضوعات والفنون الجميلة والرياضيات والميكانيكا والجيولوجيا والكونيات والبصريات وغير ذلك .
ومن الظواهر الآخرى التى أنفرد بها دافينشى أن كل هذه الملاحظات مكتوبة بخط عكسى أى أنها لا تقرأ إلا من خلال مرآه وتفسير هذه الظاهرة بسيط إذا علمنا أن الفنان كان أعسر ولما لم يحاول أحد أن يعترض على هذا الميل وكما يقول أحد المحللين النفسانيين إن ذلك ولا شك كان من حسن حظه فإنه كان يكتب دائما من اليمين إلى اليسار وقد أنقذه ذلك من كثير من المتاعب .

  • فى خدمة الأمراء 

يبدو أن طريق المجد بالنسبة لليوناردو دافينشى بدأ وهو فى 30 من عمره أى فى عام 1482 عندما أنتقل إلى ميلانو لدى لودفيكو سفورتزا الملقب بمور (الأسود) لكى ينفذ له تمثالا خياليا ضخما وقد عرف هذا المشروع بأسم "الفارس" ولم يتم تنفيذه إلا فى عام 1494 بعد أن مر بعدة مراحل من التأخير والتغيير والتوقف المؤقت الذى كان دافينشى فى أثنائه يعمل لو حته "العذراء والصخور" عام 1483 وفى الأعمال المتعلقة بالرى والإسكان وفى الأبحاث الجيولوجية والدراسات الميكانيكية وحفلات الأمراء التى كان يشرف على إقامتها وتصميم الزخارف والملابس اللازمة لها والواقع أن ليوناردو سرعان ما لاقى تقدير رعاته الذين كانوا يعجبون بحديثه وبالسهولة التى كان يبتكر بها الألعاب الجديدة كما كانوا يعجبون بعبقريته الفنية وبمواهبه الهندسية .
وعندما أحتلت قوات ملك فرنسا لويس الثانى عشر دوقية ميلانو فى عام 1499 قصد الفنان العظيم الذى كانت شهرته قد ذاعت فى كل أوروبا أسرة إيست فى مانتو ولكنه لم يستقر هناك بالرغم من محاولات إيزابيل دى إيست لإبقائه بعد أن رسم لها صورتها ونفذ نظاما هيدروليكيا لتكييف جو مسكنها وهو ما لا يدعو للغرابة إذ كانت عبقريته متعددة الإتجاهات كما أنه لم يبقى طويلا فى البندقية أو بالقرب من سيزار بورجيا وأقام حتى عام 1506 فى فلورنسا حيث صور لوحتين من أجمل لوحاته هما "القديسة آن" و"موناليزا" وأخذ يتردد بعد ذلك لفترات على شارل دى أمبواز الذى كان يقيم فى ميلانو وفى عام 1913 عندما أستعادت قوات ميلانو السيطرة على الدوقية وطردت المحتلين الفرنسيين سافر دافينشى إلى روما ولكن رافاييل ومايكل أنجلو كانا هناك وروما بلدهما فحقدا عليه ولذلك لم يتردد قرب نهاية عام 1517 فى قبول حماية فرانسوا الأول الذى أسكنه قصره الريفى فى كلو بالقرب من أمبواز وهناك أصيب بالفالج وتوفى فى عام 1519 بين يدى تلميذه الوفى فرانسيسكو ملتزى .

  • دافينشى العلوم والتقنية 

"لا توجد حقيقة مؤكدة حيث لا نستطيع تطبيق أى من العلوم الرياضية أو العلوم الآخرى التى تستند إلى الرياضيات" هذا الرأى الذى يبدو حديثا لدرجة مدهشة يدلل على الدرجة التى تحرر بها دافينشى من عقلية العصور الوسطى التى كانت تكفيها "كلمة الله" أو الفصاحة الكلامية لتقرر حقيقة ولكن دافينشى الذى كان يكن للرياضيات أعتبارا كبيرا لم يكن رياضيا كان يقر النتائج العلمية للمسائل النظرية التى لا حل لها بالوسائل النظرية مادامت الأخطاء الناتجة يمكن تجاهلها .
كان اليونانيون مثلا يعتبرون أنه من المستحيل رياضيا تربيع الدائرة أو رسم مربع مساحته مساوية لمساحة دائرة معينة بأستعمال المسطرة والفرجار فقط ولكن ليوناردو دافينشى لم يتوصل إلى الحل النظرى لهذه المسألة وله عذر فى ذلك ولكنه كان يقبل الطريقة العملية التى تستند إلى القياس مع درجة مقبولة من التقريب وهو ولا شك يسلك فى ذلك سلوك الحرفى والمهندس مغترفا من الرياضيات كل ما يمكن أن يستخدمه فى مجال المادة ومع ذلك فلا يجب أن يدعونا ذلك إلى الظن بقصور معارفه الهندسية بل إن الأمر على العكس إذ أنه كان من أكثر رجال عصره معرفة وكل ما فى الأمر أن طبيعة تفكيره لم تكن لتقوده إلى أكتشاف العموميات التى هى سمة عظماء الرياضيين بل كان يستخدم الأدوات الهندسية أكثر مما كان يهتم بالمفاهيم والقواعد والواقع وكما يقول هو إن "جنة العلوم الرياضية هى الميكانيكا" .
كان شديد الأهتمام بالحركة وبقوانين التوازن ولذا نجده يكتشف مراكز الثقل فى الكتل الهندسية التى تعرف بالمجسمات والمربعة والأهرام الأمر الذى يدل على أن معارفه الرياضية لم تكن يستهان بها كما كان يهتم بالإحتكاك وبالقذائف وكانت القوة المحركة لمياه القنوات والأنهار تبدو له عنصرا من عناصر التقدم التى يمكن أستغلالها فوريا وهو وإن لم يكن قد أكتشف هذا المفهوم الذى لا يقل قدما عن قدم الحضارات إلا أنه حاول على الأقل تحديد المعارف العلمية لعصره فيما يختص بقوانين توازن السوائل وحركتها وكل أعماله المتعلقة بالآلات الهيدروليكية تقترن بأبحاث فى القوانين والمبادئ المتعلقة بها .
ومع ذلك فإن تفكير دافينشى يتطرق إلى أبعد من ذلك وبحثه على دراسة مسائل بالغة التعقيد كالحركة الهوائية فقد أفتتن بحركة طيران الطيور والخفافيش فعكف على دراسة مقاومة الهواء والسطح الحامل للجناح بالنسبة لثقل معين وتركيب المروحة الرأسية وفى مجال الرسم أهتم ليوناردو بدرجة كبيرة بالرؤية وحاول أن يتفهم آليتها ومن هنا كانت أعماله البصرية التى تتسم بصفات فسيولوجية وهندسية كان يريد أيضا أن يتمكن من تمثيل الطبيعة بأقصى قدر من الأمانة فى لوحاته ورسومه الأمر الذى جعله يتوصل إلى ملاحظات عديدة فى العلوم الطبيعية سواء فيما يتعلق بالجيولوجيا أو النبات فى المناظر الطبيعية أو بالتشريح الإنسانى والحيوانى ولذلك نجد أن لوحاته عن التشريح توضح المخ أو العضلات فى أجمل صوره مع دقة تعبير رائعة بالنسبة لذلك العصر وتبرز عبقريته المجددة بصفة خاصة فى كل ما يتعلق بالآلات وقد تصور منها العديد وبالرغم من أن كثيرا من تصميماته قد فقد أو تلف إلا أننا مازلنا نملك منها أكثر من 3000 رسم لأجهزة متباينة وبدون أن ندخل فى دقائق التفاصيل نستطيع أن نستدل على أهم الموضوعات التى كان يهتم بها ذلك الفنان المهندس فهو أولا يتصور آلات تدل على العبقرية فى الهندسة المدنية والحربية وذلك فيما يختص بحفر القنوات وإنشاء الكبارى ونشر الأحجار أو الخشب كما رسم مختلف الأدوات والأجهزة العلمية كالأفران والساعات والأنبيقات والفرجارات ويتجلى أهتمامه بالهيدروليكا بصفة خاصة فى تصميماته العديدة للمضخات والسفن والأهوسة بل لقد ذهب إلى حد تصميم مادة للكشف تحت الماء برسم مشروعات للغوص وعوامات وغواصات كما أنه فكر فى حزام النجاة .
وتجعل منه دراساته للآلات الطائرة رائدا من رواد البحث فى مجال "ما هو أثقل من الهواء" هذا فضلا عن أنه هو الذى أخترع المظلة الواقية وأخيرا يجب أن نذكر آلاته الحربية مثل المدافع متعددة الطلقات بقذائف أسطوانية والتى يجرى تعبئة المدفع بها من مغلاقه الخلفى مثلا وعربات الهجوم التى تجرها الجياد وإن كنا لا نعرف إذا كانت قد أستخدمت فعلا أم لم تستخدم كما أننا لا نعلم على وجه التحديد أيا من المشروعات العديدة التى تصورها ليوناردو دافينشى هى التى خرجت إلى حيز التنفيذ وإن كان مما لا شك فيه أن بعضا من آلاته لن تقتصر على مجرد تصورها فإن عالم الطاقة النووية ورحلات أستكشاف الكواكب لم يعزل دافينشى فى عالم الآثار القديمة بل ستظل أمجاد هذا العبقرى حيه وهو الذى كتب يوما يقول "العلم هو القائد وهو التطبيق وهو الجنود" .

مواضيع ذات صله: