بعد ألفى سنة من عصر فيدياس
أستعاد الفن الغربى أبعاده الذهبية وبهجته
عصر النهضة إنه إعادة تقويم بطئ ودقيق لكل الأفكار الكنسية بل هو إعادة تكوين عقلى وفنى للكون طبقا لأفكار جديدة وبمفهوم للتدقيق المطلق الحر تلك هى السمات الأساسية لذلك التطور الهام الذى قدر له فى الفترة من 1425 إلى 1580 أن يكون عاملا فى تغيير كل الأوضاع فى أوروبا .
ويتوج ظهور عصر النهضة بأكتشافات علمية مثل البوصلة والمطبعة والفلك ورحلات كشفية رائعة قامت على حب الإستطلاع وفتحت آفاقا عديدة وكان لإستيلاء الإمبراطورية العثمانية على القسطنطينية فى عام 1453 أثره فى نقل مركز الثقل المسيحى نحو أوروبا وأبتداء من ذلك الوقت أصبحت إنجلترا وإيطاليا وفرنسا وألمانيا هى المسرح الذى أخذت تدور على خشبته أحداث المستقبل الثقافى لجزء كبير من الإنسانية .
وقد كتب إيلى فور يقول "لن ننسى أنه فى نفس الساعة وكما لو أن إصبعا ظلت ملامسة للشفاه أرتفعت إلى مكان ما ودفعت كبلر وكوبرنيق بحركة واحدة نحو تلك السماء التى ظلت حتى ذلك الوقت مستترة وراء كل الحدود حتى حدود الأحلام والتخيلات وفتح كولومبس وماجلان طرق الأرض الواسعة وحرر شكسبير بأفكاره اللاهوتية الشعر المنطلق بدون حدود والذى نحفظه فى قلوبنا أما رابليه وإرازموس ومونتينى فقد أكدوا القوة الأبدية للشك وحتميته وإنتزاع سرفانتيس أيديولوجيتنا بعيدا عن كل مناهج الخداع والسراب" (تاريخ الفن) .
وبعد العصور الوسطى فى الإمبراطورية البيزنطية والقوطية حينما كان الإنسان يبدو وكأنه يتوارى فى أحضان إشعاع الحب الإلهى أخذ الفرد يتلمس حريته وشعر بأنه فى حاجة إليها فكان كاهل كل فنان يرزخ تحت وطأة 10 قرون من المسيحية العقائدية وهى 10 قرون من النواهى والقوانين الدينية ومحاكم التفتيش ومع ذلك فإن الأمر لم يكن ليقتصر على ثورة ضد الإيمان فإن ما بدى فى البحث عنه بقدر من التردد فوق قماش المصور وتحت أزميل النحات هى الشخصية الفردية لكل إنسان تلك الشخصية التى تجعل منه تحت سمع وبصر الرب ذلك الكائن الفريد الذى لا مثيل له الذى ظل ضالا فى خضم الجموع الورعة فى القرون الوسطى .
نشأ هذا التيار المجدد فى إيطاليا فى بداية القرن 15 ومن فلورنسا بصفة خاصة بدأ هبوب رياح التحرر فى أجواء شبه الجزيرة بأكملها وبلغت ذروتها حوالى عام 1500 وعلى مدى 30 عاما من 1500 إلى 1530 تقريبا قدمت "النهضة الكلاسيكية العليا" للعالم روائع زاخرة فلقد تيقظت أوروبا بأسرها وحوالى عام 1580 وبدأت شعلة الخلق التى لم تكد تنقطع طيلة قرن ونصف بدأت تخبو فى جو التكلف والباروك .
- تطور عظيم
بتعطش كامل للتحرر أعلن فن عصر النهضة بعض الميول نحو التشككية والتعقلية الحديثة وبتناسى المخاوف الكبرى التى كانت تميز العصور الوسطى حاول الفنان أن يحصل على حق الحرية فى التعبير فإن فنه لن يعود يخضع إلا لقوانينه الخاصة ومنذ ذلك الوقت أصبح للملاحظة الطبيعية الدقيقة الغلبة على أحكام العقيدة الدينية وكان لابد للإحساس بالجمال الذى تجنبه الفكر المسيحى من أن يعاد أستكشافه من منابعه لدى اليونان واللاتين وأخيرا كان لابد أيضا من إعادة الكشف عن الأعمال العلمية الرائعة التى حققها الفلاسفة والعلماء فى الزمن القديم والتى عملت الكنيسة على إخفائها منذ قرون وهكذا أمكن للفنان أن يبدأ فى إنتاج أعمال قد تستطيع بروعتها أن تنافس الروعة الطبيعية التى أبدعها الخالق .
كان ذلك هو الطريق السامى الذى سلكه المصورون رافاييل وتيتيان ومايكل أنجلو وليوناردو دافينشى وفى مجال الأدب ماكيافيللى وبمبو والشاعر أريوستو والشاعر تاسو والأعجب من ذلك هو أن السلطات الدينية بدلا من أن تقف فى طريق تقدم التيار الفنى أخذت تعضده بطريقة مثالية وبعد فترة ظل المصورون والنحاتون فيها مستحوذين على إعجاب كبار رجال السياسة والكنيسة أحرزوا خطوة لدى الأباطرة والبابوات فأنشأ فرانسوا الأول كلية فرنسا وأنشأ البابا جول الثانى وليو العاشر مبدأ رعاية الفنون والآداب ومما يدعو لمزيد من العجب أن العلماء فى نفس ذلك العصر ظلوا يواجهون العقبات فى سبيل أبحاثهم فنجد أن كوبرنيق لم يسمح بنشر إكتشافاته إلا وهو على فراش الموت كما أن جاليليو أضطر لإنكار أفكاره فى عام 1633 وفى عام 1600 أحرق جيوردانو برونو فوق المحرقة فى روما وتمكن كبلر فى اللحظة الأخيرة أن ينقذ أمه من المصير الذى كان يعد للساحرات .
ومع ذلك فإن الفنانين فى عصر النهضة وبطريقتهم الخاصة كانوا ينادون بنفس الأفكار التى كان ينادى بها العلماء وكانوا يبحثون عن القوانين العظمى التى تحكم العالم ويدرسون بأفكار متحررة وبصفة خاصة علوما مثل التشريح والهندسة وقد عبروا بروح علمية حقا سواء فى لوحاتهم أو تماثيلهم أو فى القصور والكنائس التى بنوها عن نتائج أبحاثهم وأقبلوا على تخطيط التكوينات السليمة للكون غير أن التقدم السريع للمطبعة سمح منذ ذلك العصر بالإنتشار السريع للمعرفة وإذا كان إختراع الحفر قد سمح بإنتشار الأعمال الفنية وإذا كانت الأفكار والإختراعات قد بدأت تتداول فى أرجاء أوروبا من باريس إلى ويتنبرج ومن جنيف إلى لندن وأكسفورد ومن فيينا إلى براج إلا أن المدن الإيطالية الكبرى فلورنسا وروما ثم البندقية هى التى أستطاعت أن تفخر بأنها كانت مهدا للفكر الجديد .
- أساتذة فلورنسا
كانت فلورنسا بدون جدال هى التى فتحت الطريق أمام النهضة وفى مجال التصوير لا شك فى أن الرائد الأعظم كان جيوتو المتوفى عام 1337 وهو الذى وضع رسوم وتخطيطات برج الجرس عام 1334 أما على أسوار أسيزى أو بادوا فقد سرد فى حب قصة حياة المسيح والقديسين وتشتمل أعماله وقد ظلت حتى ذلك الوقت ذات طابع دينى على مخطط ينحو نحو البحث عن الفردية المنبعثة من القواعد التقليدية وعن النموذج التوافقى بين الأحجام والألوان وقد أمتد أسلوبه على يد ثلاثة من الأساتذة هم المعمارى والنحات برونلليسكى ( 1377 ـ 1446 ) والنحات دوناتللو ( 1386 ـ 1466 ) والمصور مازاتشيو ( 1401 ـ 1428 ) وتعد الغرفة القديمة الخاصة بملابس الكهنة فى كنيسة سان لورنتزو من أولى إنجازات برونلليسكى فى فلورنسا وكانت نموذجا مبكرا للتكوين الحيزى فى عصر النهضة والقبة المدهشة لسانتا ماريادل فيورى فى فلورنسا والتى يرى الفنان نفسه أنها تذكر المشاهد ببيضة وصل طرفها إلى السماء بنيت هى الآخرى طبقا لتصميماته كما أنه هو الذى بنى كنيسة باتزى بالقرب من سانتا كروتشه بفلورنسا وقد بناها طبقا للطرز القديمة وكذلك قصر بيتى وهى مزينة برسوم بارزة من القيشانى ترجع إلى لوكا ديلاروبيا ( 1400 ـ 1482 ) وقد بدأ دوناتللو عمله فى القبة وفى سان ميشيل .
وفى عام 1416 بدأ المجموعة غير العادية من أنبياء أبراج الأجراس التى تمثل طفرة فجائية نحو واقعية بعيدة عن الإبتذال وقد أستمد دوناتللو نماذجه من وسط شعب فلورنسا ففى البرونز الرخام أحيا أطفالا ( الكانتوريا - الملاك والطبل ) ومراهقين ( سان جان باتيست ـ داود عاريا ) وإن التمثال الخشبى لسانت مادلين القديمة فى بيت العماد سيظل التحفة الصوفية لدوناتللو ويتميز موزاتشيو الذى كانت حياته الفنية قصيرة والذى يتصل فنه بفن جيوتو بأنه واحد من أوائل المصورين الذين درسوا أختفاء الخطوط دراسة علمية كما درسوا إبراز المقارنات وتشريح جسم الإنسان والحيوان فإن علم نماذجه المجسمة والظلال يبدو شديد التأثير وبصفة خاصة فى رسومه الجدرانية فى كارمين .
أما الراهب فرا أنجيلكو ( 1387 ـ 1455 ) "مصور الجنة" فيبدو أنه كان الأستاذ الملهم لفليبوليى ( 1406 ـ 1469 ) أما جيرلاندايو ( 1449 ـ 1494 ) والنحات فيروكيو ( 1436 ـ 1488 ) وبوتيتشيللى ( 1441 ـ 1510 ) فهم الرواد الذين سبقوا ليوناردو دافينشى مباشرة فى العلوم ودقة الرسم والمرونة التوافقية للنموذج أما الفنان مانتينا ( 1431 ـ 1506 ) من مدرسة بادوا فقد ظل فى شبه عزلة عن هذا التطور السريع لتصوير آخذ فى التقدم فى المجال الجمالى فإن أسلوبه أكثر جفافا وخشونة فإن لوحاته ( صلب المسيح وجبل الزيتون والمسيح ميتا ) تعكس نظرة تشاؤمية على العالم تتسم بالكآبة والعذاب وإن كانت مع ذلك إيذانا بظهور مايكل أنجلو ومن الرواد الآخرين جبار كنيسة سيكستين الفنان سينيوريللى الذى أبرز فى رائعته "يوم الدينونه" حشدا من الخاطئين بأجسامهم العارية المعذبة وفى خضم هذه الإنجازات والتخيلات ظهر أول كبار عباقرة العصر ليوناردو دافينشى .
- عبقرية عالمية
كاتب وشاعر وعالم ومصور هو دافينشى الذى ظهر فنانا كاملا تجاوزت رؤيته حدود الأفق الفكرى لعصره كان إبنا ذكيا لأحد مسجلى العقود فى فلورنسا ولد فى عام 1452 ولم يسبق لأحد غيره أن أولى فنه من التأمل بقدر ما أولاه فإن مؤلفه "دراسة فى التصوير" يشهد على الجدية التى كان يجرى بها أبحاثه ويمكن القول بأنه يتوصل إلى الجمال عن طريق التفكير الحسابى البحت والسر هنا يكمن فى التوافق وعندما يتحقق هذا التوافق تماما فإنه يتمخض عن إنسجام حفلى وتتسم كل أعماله بطابع علمى لم يسبق أن توصل إليه أحد قبله وقد أستطاع به أن يربط بين دقة النموذج وأقصى درجات الروحانية فوق الطبيعية وتشهد لوحاته ( العذراء عند الصخور والحسناء ذات القرط وحفل قاعة الطعام فى كنيسة سانت مارى دى جراس ) وكذلك رسوم ( معركة إنجيارى والجيوكندا ) والرسوم التخطيطية لإبتكاراته فى مجال الآليه ( عربات قتال وهيلوكوبتر وآلات طائة ) تشهد كلها بإلهاماته التنبؤية بقدر ما تشهد على تمكنه التام من عمله الأمر الذى لازمه عند وفاته بالقرب من أمبواز عام 1519 .
- روما وفينسيا
قد يكون الإضمحلال النسبى الذى لحق بفلورنسا فى مجال الفنون راجعا إلى الإنطلاقة السريعة لروما فى نهاية القرن 15 أكثر مما كان راجعا إلى الثورات الداخلية التى زعزعت من كيان مدينة دى مديتشى والواقع أن المدينة البابوية فى بداية القرن 15 كانت فى طريقها إلى أن تصبح عاصمة الفنون وكان من أهم نبضاتها الفنية ظهور مايكل أنجلو ورافاييل إن التفتح الندى الرقيق المكلل بالضوء والإشعاع الذى تجلى فى أعمال رافاييل ( 1483 ـ 1520 ) كان قد أعلن عنه نفس الطابع الذى ظهر به بيروجينو وبنتوريكيو وكان الفنان الشاب يعمل عندهما وكذلك بالطابع شبه النسوى الذى أتسم به جيوفانى بللينى ( 1429 ـ 1516 ) .
كانت حياة رافاييل رغم قصرها حافلة بالأمجاد وتميزت بالنجاح والعبقرية وكان الفنان يحظى بإعجاب البابا بقدر ما كان يحضى بإعجاب الجماهير وقد بدأت عبقريته تتجلى منذ أن كان فى طور المراهقة وقد زخرف بموهبته قاعات الفاتيكان بالرسوم الجدرانية وكذلك 13 مقصورة المطلة على الرواق المغطى وتدل أعماله مثل ( مدرسة أثينا والنزاع على سر القربان المقدس والخورى وخلاص القديس بطرس والتحول ) على أن موهبته أستطاعت أن تتجلى فى إبراز أدق التفاصيل كما تجلت فى إنجازاته الضخمة وبعد وفاة المعمارى برامانتا عام 1514 أدار الأعمال الجارية فى كنيسة القديس بطرس بروما ثم عين مفتشا للآثار والتماثيل فى المدينة الخالدة وكانت معرفته بالفن القديم وشغفه بالديانة المسيحية من العوامل التى ساعدته على المزج بين هذين العالمين اللذين يبدوان متعارضين فى ظاهرهما وجعلهما يتوافقان تحت لمسات فرشاته ولذلك فلا وجه للعجب أن لوحاته "العذارى" سرعان ما أصبحت نماذج مثالية للتقوى والفن .
أما النحات المصور مايكل أنجلو ( 1475 ـ 1564 ) فكان مختلفا ذا طبيعة معذبة ثائرة وعنده طاقة فوق طاقة البشر فأدخل عواصف ألوانه أو كتل الرخام فى الكنائس وقاعات كنسية القديس بطرس الهادئة فى روما وعندما بلغ 20 من عمره قام بنحت "كوبيد النائم" وكان عملا بالغ الدقة لدرجة أعتبر معها من القطع الأثرية وقد تألق عمله بالتشريح فى تمثاله "التقوى" عام 1498 و"داود" عام 1504 وفى عام 1505 أستدعاه جول الثانى إلى روما وهناك واتاه الإلهام أمام تمثال مؤلم وهو تمثال "اللاوكون" اليونانى الأصل ثم شرع فى إنجاز مقبرة البابا ولكن لم يقدر له أن يتمها وإن تمثاله الرائع "موسى" العملاق الذى يتقلص تحت تأثير رؤيا صوفية ليشهد وحده بما كان يمكن أن يؤول إليه هذا التمثال لو تم .
وفى الفترة من 1508 إلى 1512 عكف على عمل يفوق طاقة البشر خرج منه منهوك القوى جسديا ومعنويا ذلك هو زخرفة عقود كنيسة سكستين فإن تلك الزخارف تروى قصيدة شعرية هائلة من خلق العالم إلى أن دفع الإنسان فى هاوية الخطيئة وصراعاته ومعاناته تتجلى كلها فيما بين الأشكال الهادئة للأفراد وكبار الأنبياء وبعد ذلك 23 سنة وبناء على دعوة بولس الثالث عاد إلى كنيسة سكستين وفوق هيكلها قام بتصوير الرسم الجدرانى الهائل "يوم الدينونة" من 1535 ـ 1541 حيث يبرز من جوف الليل الكونى مسح أمردأرد ذو قوام متين وهو ينظم بذراعه المنتفخة سقوط الأجسام الملعونة وصعود الأرواح المتطهرة فإنها تدفق من المناظر التشريحية الرائعة ومزيج من الإنشاءات تعصف إنفعالات الغضب أو الحماس وأخيرا لقد بلغ الفنان الذى أنجز كل تلك الروائع 72 من عمره قبل أن يصبح معماريا لكنيسة القديس بطرس وقد بادر بتعديل خطتها الأولية وأضفى عليها أبعادا هائلة وكانت تلك هى آخر أعماله .
إن مدرسة فينيسيا تختلف كثيرا عن مدرسة روما فهى أكثر رقة وتركز دائما على شدة الألوان وقد صور جنتيلى بللينى ( 1429 ـ 1507 ) وكرباتشيو ( 1455 ـ 1526 ) المواكب التى تسبح فى الضوء كما صورا الإنعكاسات فوق مياه القنوات غير أنه مما لا شك فيه أن تيزيانو فيسيليو الملقب بتيسيان أو تيشيان ( 1489 ـ 1576 ) هو الذى بث قوة الدفع فى مدرسة فينيسيا وفى نفس الوقت أمضى حياة دولية إذ أنه عمل أيضا لحساب فيليب الثانى وفرانسوا الأول وبعد سنوات طويلة من التعليم لدى تزوكاتو وبللينى وجيورجيونى تعلم كيف يترجم أعمال السماء ونعومة الأجسام العارية ورقة الظلال وذهب الشمس مثل ( فينوس الغاربة والحفل الحقلى ) وفى فترة نضجه الكامل أنتج 4000 لوحة وأقمشة ذات ألوان تتسم عادة بالتألق والفء ومن فينيسيا إلى بادوا ومن روما إلى أوجزبرج حيث أستدعاه شارل كنت ليصور لوحات ظلت شهيرة وهى ( إيزابيل ديستى والبابا بول الثالث والرجل ذو القفاز وشارل كنت ) وبعض الأعمال الدينية مثل ( النزول إلى المقبرة وصعود العذراء وعذراء أسرة بيزارو ) وبعد وفاته سلك نفس الطريق كل من فيرونيز ( 1528 ـ 1588 ) وتينتوريتو ( 1518 ـ 1594 ) غير أن هذا الأخير الذى قال عنه فارساى إنه "أعنف مخ عرفه التصوير" يضارع إن لم يتفوق على أستاذه القديم وقد شهرته لوحاته لمدرسة سان روكو حوالى 1561 وأكسبته مجدا وهى ( القديس روك يعالج المرضى والقديس روك مع الحيوانات المفترسة فى الصحراء ) وبالنسبة لقصور الدوجات أنجز يوم الدينونة وبصفة خاصة لوحته الرائعة "الفردوس" التى تمكن من إتمامها رغم تقدم سنه وذلك بفضل معاونة التلاميذ العديدين الذين كانوا يعملون معه .
كان السعداء والملائكة والقديسون الرجال الذين أنقذهم حبهم لله ينجذبون دائما نحو السماء بضرب من الإلهام وفى حركات دائرية تسبب الدوار فى تتابع لا نهاية له وهى تزاحم فى الفضاء متجهة نحو خيال المسيح والعذراء وقد غمرتها الأنوار فكانت عبقريته ورقته التى بدت فى تتابع لمسات الألوان القوية والخفيفة تجعل الأجسام تبدو مشوهه وقد تصاعدت إلى ضرب من الشفافة الشمسية حيث لم يعد باقيا سوى أرواحها وهى تحاول التخلص من غلافها المادى .
- فى باقى أجزاء أوروبا
لن نكون منصفين إذا أعتقدنا أن إيطاليا كانت وحدها هى التى تميزت بفخر تقديم ذلك السيل الدافق من العبقريات الفنية على مدى التاريخ فقد كانت أوروبا كلها تتأجج بشعلة الفن فالفلاندرز وألمانيا وفرنسا شاهدت نشأة عبقريات رائعة يمكن أن نقارن أعمالهم دون مبالغة بأعمال الأساتذة الإيطاليين فكان الإخوان فان إيك الفلمنكيان قد فرضا بقوة أسلوب التصوير بالزيت والذى قالا بعد ذلك أنهما أخترعاه فلقد أستخدما طبقات عديدة من الزيت المجفف من بذور الكتان والجوز والذى يستخدم طلاء على خلفية مجهزة لالألوان المائية وصورا بها لوحات على القماش ظلت محتفظة بنضارتها الأولية طيلة خمسة قرون ومما يذكر لجان فان إيك ( 1384 ـ 1441 ) لوحته "عذراء الواهب" و"سان فرانسوا يدفع بالحديد الساخن" أما أخوه هوبرت فنذكر له لوحته الرائعة "مذبح الحمل الصوفى" فى كنيسة سان بافون فى جاند فإن 258 شخصية التى صورها تشهد على فن يجمع بين جمال المنظر والعمق وفن مشوب بالعلم والرقة أما روجييه فان در فايدن ( 1399 ـ 1464 ) المولود فى تورناى فى فالونيا فقد تشكل هو الآخر فى المدرسة الفلمنكية وتتميز أشكاله المستطيلة وألوانه الوقورة فى لوحته "شهادة الصليب" وكانت رحله قام بها إلى إيطاليا سببا فى تلطيف نظرته للعالم وتوجد لها أثار فى لوحته "يوم الدينونة" فى ملجأ بون أما هانز مملنج ( 1435 ـ 1494 ) فقد أشتهر من جهته بلوحته "مدفن القديسة أورسولا" عام 1489 وهو يتسم بقوة ملاحظة واقعية وفى نفس الوقت صوفيه بلا منازع أما ألمانيا فإنها تفخر بمصورين عبقريين ألبرخت دورر ( 1471 ـ 1528 ) وهانز هولباين ( 1497 ـ 1543 ) وفى أثناء الجولة التى قام بها دورر فى أوروبا نشر قائمة بلوحات جذابة محفورة فى الخشب مثل "الرؤيا" عام 1498 وقدم رسوما على النحاس مثل ( الفارس ووفاة الشيطان والكآبة والقديس جيروم ) من 1513 إلى 1514 وتشهد دقته البالغة أقصى حدودها وذوقه الرمزى الذى يتسم أحيانا بالغموض على صوفية قلقة معقدة وقد أضفى هولباين على لوحاته "السفراء الفرنسيون" و"ظلال الموت" نفس الدقة المحسوبة التى تكاد تكون مرنه ولكنه أضاف إليها إحساسا بالرشاقة والنموذجية ولا شك فى أن رحلاته إلى إيطاليا هى التى أكسبته هذا الذوق وأخيرا فإن جرونفالت ( 1480 ـ 1528 ) أثبت أنه ملون ورسام معذب فلوحته الشهيرة "الصلب" التى يبدو فيها جسد المسيح فى أشد حالات التعذيب والنزيف وقد تقلص من قمة رأسه إلى أخمص قدنه تقلصا عنيفا هو تقلص الموت تفصح عن تعبيرية جامحة وذوقا قاسيا نحو التفصيل وتربط بين بعض المعالم القوطية ولوحة "حماقات" الباروك المستقبلة .
أما من جهة فرنسا فقد واجهت إنطلاقة فنية وإن كانت أكثر تهيبا فإنها تفتقر للمميزات فإن لوحات جان فوكيه ( 1414 ـ 1481 ) تحتل مكانة شرفية إلى جانب لوحات المصورين الإيطاليين وتشهد مبانى قصور اللوار فى منتصف القرن 16 وتشييد قصر فونتينبلو فى نفس الوقت بتأثر الفنانين الفرنسيين بالمعماريين الإيطاليين وكذلك بالحرية التى عرفوا كيف يحصلون عليها من أساتذتهم الكبار ويمكن أعتبار جان جوجوو الذى نحت "نافورة الأبرياء" فى باريس عام 1549 من مدرسة النحت القديمة أما جان كلووا وأبنه فقد تركا رسوما بالقلم والحجر الدموى تعتبر من الروائع الرقيقة النقية .
وإذا كان علم العصور الوسطى يتركز فى الإتجاه اللاهوتى فإن عصر النهضة أرتفع بالإنسانية إلى مرتبة العلوم : علم الإنسان وعلم للإنسان فقد تطور هو الآخر دون الأعتماد على المبادأة الإلهية ولأول مرة منذ 1000 سنة وجد الفرد الجرأه على النظر إلى جسمه ذلك الجسم الذى سمح الجراحون لأنفسهم بتشريحه وأدرك أنه جميل لدرجة دفعته إلى تصويره عاريا على لوحات التصوير وفى التماثيل .
أما فى نظر المسيحيين الذين أحتفظوا بأفكار العصور الوسطى فقد ظل الفنان فى حكم المرتكب لخطيئة مزدوجة الكبرياء والرغبة فى المعرفة غير أن هذه الخطيئة المزدوجة هى نفسها التى جعلت كل من ليوناردو دافينشى ومايكل أنجلو من الرجال الكاملين وبصفة عامة كان فنانو القرنين 15 و16 محافظين على الإيمان الذى ولدوا فى أحضانه وأكثر من ذلك فإنهم بتمثيلهم لذلك الإيمان بوسائل فنية جديدة أعادوا إليه تألقا جديدا بل شبابا جديدا فلقد أصبح رجل عصر النهضة حر أمام خالقه وبالتالى كان بإستطاعته أن يعبده دون رهبة أو خشية تعسفية ودون أستخفاء وإذا كان العلم قد أستطاع فى تلك الحقبة من التاريخ أن يعايش الدين فإن ذلك يدل على أن الفنان فى القرنين 15 و16 كان رجلا كاملا يهتم بالجمع بين الضرورتين المادية وفوق المادية وهما اللتان يحملهما كل إنسان بداخله .
مواضيع ذات علاقة: