المجتمع الإقطاعى


من الطريف ما يلاحظ أن هذا المجتمع الذى كان يدين بالمسيحية المثالية كما قيل كان قائما على يمين الولاء 
وهو إجراء حرمه المسيح 

فى قلب القصر رمز قوة الحاكم والحماية التى يلتزم بتقديمها لأتباعه توجد قاعة أجتمع فيها نحو 100 شخص وفى نهايتها مقعد من الخشب المتين ذو ظهر عالى جلس فوقه الأمير الوالى يتحدث إلى أسرته وأصدقائه المحيطين به وفى الوسط وقف رجال القرية الأحرار وكان تجمعهم لمناسبة أن واحدا منهم سيصبح تابعا للأمير تلك كانت أولى الصور للفيلم التاريخى العظيم الذى أخرج آلاف المرات فإن الصمت يسود الإجتماع ويقترب من الأمير رجل يرتدى قميصا من الكتان الخشن التفصيل وعارى الرأس لا يحمل سلاحا يركع أمامه ويمد نحوه يديه مضمومتين فيتناولهما سيد المكان بين يديه 
ويسأله : 
هل ترغب فى أن تصير رجلى بدون تحفظ ؟ 
ويجيبه الرجل : 
إنى راغب فى ذلك 
وعنئذ ينهض الرجل واقفا ويتعانق الرجلان أو يتبادلان قبلة السلام ويضع التابع الجديد يده فوق الكتاب المقدس ويقسم على أن يكون أمينا لأميره وألا يضره أو يخونه وعندئذ يسلم له الأمير قطعة من الأرض وهو يقول له "هذه هى عقد إقطاعتك" ويستطيع الأمير أن يهب تابعه قضيبا أو حلقة ذهبية أو قفازا أو مدية أو غصنا وأبتداء من تلك اللحظة فإن من يخون يكون قد أرتكب خطيئة فلقد أصبح التابع مالكا لإقطاعته .
ويمكن تلخيص واجبات التابع فى جملة واحدة أن يكون أمينا وأن يقدم العون والنصيحة فى كل وقت والإلتزام بالأمانة وهو ألا يسبب ضررا لمولاه سواء لشخصه أو لأملاكه أو لشرفه وتقديم العون هو المساعدة العسكرية التى يجب تقديمها على صهوة جواد وفى حالة الحرب تتضمن هذه الخدمة درجة معينة من اليسر المالى من جانب مقدمها إذ يجب عليه أن يمتلك لا جوادا فحسب ولكن معداته الشخصية أيضا وأن يتكفل بما يلزم للجواد وذلك يشمل السيف والخوذة والزرده والدرع وزخرف الخوذة أما إذ لم يكن التابع فارسا فيمكن إلحاقه بخدمة حرس القصر ومن جهة المبدأ يحق للأمير أن يطلب مساعدة الرجال فى أى وقت شاء وفيما بعد تحددت مدة هذه الخدمة بأربعين يوما فى السنة أما إذا زادت على ذلك فإن الأمير يدفع لرجاله مرتبات كجنود وقد تقتصر المساعدة على مهمة حمل الرسائل أو مرافقة الأمير أو أحد أفراد أسرته من ضيعه إلى آخرى .
  • زمن تريستان وإيزولده 
ها نحن فى عصر الحروب الصليبية التى كانت كذلك وسيلة لتنحية فروسية صاخبة وقد تضاعفت الحروب الخاصة ومعها سيل من الإلتزامات فإذا وقع الأمير فى الأسر إلتزم التابع بدفع الفدية اللازمة لتحريره وإذا زوج الأمير كبرى بناته إلتزم التابع بالإسهام فى صداقها وعندما يجرى الأحتفال بتنصيب الإبن الأكبر فارسا أو إذا قرر الأمير الخروج إلى الحج أو إلى الحروب الصليبية فى الأراضى المقدسة فإن التابع يسهم ماليا فى نفقات كل هذه الأنشطة ومن أنواع المساعدة كذلك تقديم النصيحة وهى خدمة أدبية فعندما يتخذ الأمير قرارا خطيرا أو يقتضيه الأمر إصدار حكم فإنه يدعو كبار أتباعه للإجتماع وعليهم أن يقدموا له رأيهم وهكذا نقرأ فى رواية "تريستان وإيزولده" أن "الملك مارك أرسل خطابات مغلقة يدعو فيها أفراد بلاطه من بارونات الإقطاعيات ليتلقى نصائحهم" .
وإذا كانت واجبات التابع تبدو ثقيلة فإن هناك مقابلا للإلتزامات والواقع أن الأمير يلتزم نحوه بالحماية والإعاشة ويلبى أستغاثة التابع إذا هوجم ويدافع عنه ضد أعدائه حتى ولو أقتضاه ذلك شن حرب ولذلك فهو يقدم له إقطاعه ليستمد منها معاشه وفى معظم الأحوال تكون هذه الإقطاعة مساحة من الأرض كبرت أو صغرت أو قصرا وقد تكون أحيانا مبلغا من المال يدفع له بأنتظام أو منحة مالية يستطيع التابع أن يقتنى بها ضيعة وإذا أخل التابع بإلتزاماته فإن الإقطاعة تعود إلى الأمير كما أنه عند وفاة أى منهما ينتهى مفعول القسم الذى كان يربط بينهما ولكن إبتداء من القرن العاشر أتجهت الإقطاعات ولاسيما إذا كانت كبيرة إلى أن تصبح وراثية وفى نفس الوقت يطالب وارث الإقطاعة السماح له بالتمتع بحق الولاء وبصفة عامة يوافق الأمير على هذا الطلب وأحيانا يطلب مقابلا ماليا أو جوادا بمعداته كاملة ولا يجوز للتابع أن يتصرف فى هذه الإقطاعة لا بالبيع ولا بالتنازل لأنه لا يملك هذا الحق غير أنه على مر القرون نلاحظ فى تصرفات الأمراء ميلا لقبول مبادلة الأراضى بين تابعين وأبتداء من القرن 12 لم يعد لهم أن يعترضوا على التنازل عن إقطاعه .
إن التاريخ آله ضخمة تعمل على خلق الظواهر والمؤسسات وعلى القضاء عليها فإن حالة عدم الإستقرار التى جاءت فى أعقاب تفكك مملكة كلوفيس أبتداء من وفاته عام 481 حولت بلاد الغال إلى ميدان قتال يتلاقى فيه الورثه المتذمرون مدججين بالسلاح ومن الطبيعى أن يسعى سكان الأقاليم للحصول على المساعدة والحماية من الأقوياء وعلى مر القرون وإزاء الخدمات التى قدمت تقدم النظام فبعد أن بدأ خضوعيا ثم مقبولا إنتهى به الأمر ليصبح مطلوبا وأخذ الأتباع يتحالفون بدورهم ويمكن تبيان الشكل العام للمجتمع الكارولنجى بهرم فى قمته الملك وعند قاعدته رقيق الأرض وسرعان ما أمتد هذا الشكل الإجتماعى إلى معظم بلدان أوروبا ولم يتداع نهائيا إلا فى أواخر القرن 18 .
  • تصدعات ووفاة 
غير أن التصدعات كانت قد ظهرت قبل ذلك بفترة طويلة فلقد كانت أولى الضربات القاصمة التى لحقت بالبناء الهرمى ناتجة عن الملكية فمع بداية صراع السلطة المركزية ضد الأمراء أخذت تحل محلهم تدريجيا فى تولى حقوق الولاية وأبتداء من القرن 12 هاجمت السلطة المركزية تشريعات الأمراء وحددت مداها فلقد حظر فيليب الوسيم وأبناؤه على الأمراء تحصيل بعض الضرائب وقيدوا حق سك النقود وأصدر شارل السابع مرسوما يقضى بأن يكون الملك وحده هو الذى له حق إنشاء الجيوش وجاء لويس الحادى عشر ومن بعده ريشيليو مخفضا من الإقطاع السياسى .
وفى فرنسا كان القضاء النهائى على هذا النظام على يد طبقة جديدة هى طبقة البرجوازية الحضرية فكان هؤلاء البرجوازيون غير راضين إطلاقا عن العائد الإقتصادى الذى تقدمه آلة الإقطاع الطاحنة وكانوا يعارضون تكدس الإمتيازات فى أيدى الأمراء والعراقيل التى كانوا يقيمونها فى وجه التجارة والمبادلات الدولية وحرية المشروعات فقاموا بالقضاء على هذا النظام نهائيا وفى ليلة 4 أغسطس 1789 بعد الإستيلاء على الباستيل بأيام قليلة وفى أوروبا الشرقية كان لابد من أنتظار إنهيار الرايخ النازى الثالث فى عام 1945 لكى يختفى معه عدد من النظم الإقطاعية من النوع الملكى الفاشى وهذا هو ما حدث بصفة خاصة فى يوغوسلافيا وبلغاريا ورومانيا والمجر وعدا اليونان فقد حلت محل تلك النظم ديموقراطيات شعبية .
ولم يعد المجتمع الإقطاعى حاليا سوى إستعراض براق أقرب إلى العرض التاريخى أو لإنتاج أفلام مثيرة أو حلقات تليفزيونية مسلسلة ومع ذلك فإن الإقطاع على مختلف أشكاله لم يندثر تماما فى أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا بل وفى أوروبا أما فيما عدا ذلك فلم يبقى منه سوى زخارف فخمة تتجلى فى تلك القصور التى تروى تاريخه .

مواضيع ذات صله: