السكة الحديدية


لقد عرفت السكة الحديدية فى كل مكان فى العالم كيف تهيئ نفسها لكى تنقل مزيدا من الناس ومزيدا من البضائع فى أمان وسرعة 
عندما ظهرت القاطرة فى بداية القرن 19 قدر لذلك أن يأتى معه بثورة حقيقية فى أسلوب النقل وأن يلعب القطار بوصفه أول وسيلة للتنقل غير الحيوان دورا جوهريا فى التطور العالم وإذا كان أول إستخدام للسكة الحديدية يعود إلى الأزمان القديمة وقد طرأت للإغريق بفعل فكرة حفر أخاديد فى طرقهم لتسهيل إنتقالاتهم فإن هذا الأسلوب الذى أصبح ضروريا نتيجة لتطور العربات الثقيلة فى المناجم لم يفرض نفسه إلا فى عصر النهضة ثم بعد ذلك ظهرت السكك الحديدية التى أخترعت فى بريطانيا بالقرب من شيفيلد عام 1767 ومع ذلك فقد كان لابد من الإنتظار حتى بداية القرن 19 لكى يقوم أول قطار يجرى على خط حديدى بفضل التحسينات التى دخلت على الآلة البخارية وهذه التحسينات التى أدخلت على آلة بابين جاءت على أيدى جيمس وات الذى أستخدم عام 1765 الضغط البخارى مباشرة فقدم بذلك للبشرية أول محرك له وبعد ذلك بقليل أى فى عام 1770 إبتدع الفرنسى كونيو أول عربة سيارة تعمل بالبخار ثم كان المهندس البريطانى ريتشارد تريفيثيك هو الذى أعد أول قاطرة تجرى على خط حديدى ففى يوم 24 فبراير 1804 قطرت أول عربة تسير بالمحرك وعلى طول 15 كيلو مترا فوق خط حديدى خمس عربات محملة بخام الحديد وفيها أتخذ أماكنهم أول من يسافرون بالسكة الحديدية فى العالم وعددهم حوالى 70 رجلا وأخيرا وبعد مرور بضع سنوات أى فى عام 1808 أستعرض فى لندن قاطرة تزن 8 أطنان وتجرى فوق خط دائرى بسرعة 12 ميلا فى الساعة وقد إجتذبت قاطرته هذه التى أسماها "فليمسك بى من يستطيع" جمهورا غفيرا من الذين أستبد بهم الفضول .
  • خطوات الوحش الأولى 
على أن إنتشار السكك الحديدية قد إصطدم فى ذلك الوقت بمشكلتين رئيستين الأولى فكانت الإعتقاد الذى كان يشبه الإجماع والذى يقول بأن إلتصاق عجلة من الصلب بالمعدن الألمس للخط الحديدى لا يمكن أن يسفر عن نتيجة تفى بالغرض وعند ذلك كثرت الوسائل التى جاءت على نحو ما من التعقيد بل وفى بعض الأحيان ساذجة ومضحكة كذلك الذى إقترح جعل العجلات والقضبان مسننة أو جعل العجلات تدور على جنازير غير أن أقصى ما وصلت إليه الغرابة هو ما إقترحه المهندس برونتون الذى تخيل عام 1813 تحريك القاطرة على سنادات وأخيرا تم حل المشكلة نتيجة لحسن إدراك الإنجليزى هادلى الذى أقدم على تجربة أبسط الوسائل جميعا ألا وهى العجلة المتحركة فوق خط حديدى أملس تماما وطرأت مشكلة ثانية وكانت أكبر هذه المرة وهى حدود قوة الآله البخارية لقد كان هذا النظام لا يتيح فى ذلك الوقت سوى إنتاج كمية صغيرة من البخار الأمر الذى حدد السرعة بخمسة أو ستة كيلو مترات فى الساعة وهنا خطرت للمهندس الفرنسى مارك سيجان عام 1827 بهدف زيادة كمية البخار فكرة جعل الغازات الملتهبة تدور فى أنابيب صغيرة تعبر الغلاية .
وأخيرا فى عام 1829 إشترك المهندس ستيفنسون فى مسابقة نجح فيها "الصاروخ" الذى قدمه والمزود بغلاية ذات أنابيب من طراز سيجان تبلغ سرعته فى المتوسط 22 كيلو فى الساعة بحد أقصى 38 كيلو فى الساعة وكانت التجربة ناجحة وبذلك نشأت القاطرة ولم تعد السكة الحديدية موضع فضول وإنما أصبحت وسيلة نقل ذات فائدة عامة ونظرا لأن العرض قد تم لمعرفة إمكانية جر حمولات ثقيلة بسرعات مرتفعة نسبيا فإن خطوط السكة الحديدية حصلت حينئذ على أول التطورات التى أدخلت عليها .
ففى البداية تضاعفت الشبكات فى بريطانيا وهى الدولة التى كانت فى ذلك العهد أكثر الدول الصناعية تطورا وفى خلال عام 1830 تم إفتتاح خط ليفربول ـ مانشستر الذى بناه ستيفنسون وجرى فوقه قطار فى عام 1835 بسرعة 100 كيلو متر فى الساعة وأخيرا فى عام 1838 تم رسميا إفتتاح الخط الأول الذى يخرج من العاصمة وفى فرنسا كانت النفوس أكثر تشككا وكان ظهور "القضيب الحديدى" وهو الإسم الذى أطلقه رسامو الكاريكاتير فى القرن 19 على السكة الحديدية سببا فى إنقسام الرأى العام إلى حزبين متخاصمين حزب الذين راحوا يشنعون عليه بعنف وحزب الذين يؤيدونه بحماس ومع ذلك ورغم هذه التناقضات إستمرت السكة الحديدية تتطور وأفتتحت فرنسا منذ عام 1832 خط ليون ـ سان إيتيان ثم خط باريس ـ روان عام 1843 وباريس ـ ليل عام 1846 وباريس ـ مارسيليا عام 1855 وأتجهت بلجيكا وإيطاليا وألمانيا وهولندا بل وروسيا الشاسعة عند ذلك إلى السكك الحديدية .
  • الحصان الحديدى الأمريكى 
أما أمريكا فقد حصلت على أول قاطرة لها عام 1824 فى نيويورك وهنا عرفت هذه القارة التى كانت فى أقصى إنطلاقتها دفعة واحدة هذا "الحصان الحديدى" كوسيلة عجيبة للنقل قدر لها أن تطورها بصورة لا تخطر على بال ففى عام 1833 إنتهى العمل فى أول خط أمريكى كبير وهو أطول خطوط العالم فى ذلك الوقت وقد تم بناؤه على عجل لكى تحظى البلاد بكيان قادر على مساندة التقدم الضخم فى الإقتصاد وفى ذلك الوقت إبتدع الأمريكى ستيفنز بالإضافة إلى ذلك الخط العصرى الذى سمى "الخط ذو القاعدة" والذى سمى أيضا "خط فينول" إذ أن الذى أدخله فى فرنسا كان فينول عام 1836 وفى الولايات المتحدة الأمريكية أيضا جرت عام 1866 أول تجربة للإشارات الأتوماتيكية التى حلت تدريجا محل الإشارة الميكانيكية التى أقامها الإنجليزى جون ديكين عام 1848 وأخيرا ظهرت الناقلات الحديدية فى عام 1831 فى العالم الجديد وهى عربات ذات محورين وضع فوقهما هيكل عربة لكى تسير فى المنحنيات وتستطيع كذلك السير فوق الخطوط التى تقام على عجل وفى عام 1869 أفتتح أول خط عبر القارة الأمريكية بين نيويورك وسان فرانسيسكو ويربط المحيطين الهادى والأطلنطى وبدأت مملكة السكك الحديدية فى العالم أجمع وبالرغم من العزوف عنها فإنها دخلت بصفة نهائية فى السلوك العام وأصبحت أداة إنطلاق إقتصادى .
  • الإنطلاقة الحديدية والصناعية 
كان من شأن إختراع القاطرة الذى أتاح نقل الحمولات الضخمة فى سرعة بالغة أن نتج عن ذلك حدوث إنطلاقة كبرى فى الإقتصاد والتبادل التجارى فلقد تم نسيان تلك المشكلة الصعبة الخاصة بإعادة تشغيل سائقى العربات فى غمرة الرخاء العام الذى إنتشر نتيجة لهذه الوسيلة السريعة الآمنة للنقل ثم كان فى عام 1851 أن تم إدخال أول نظام برقى وهو جهاز مركزى لتنظيم حركة المرور للقطارات والبريد والفرز ثم وضع هيكل عام مما أدى إلى دعم هذه الإنطلاقة العملاقة التى بدأت فى القرن 19 وأستمرت حتى عام 1900 وفى خلال تلك السنوات تضاعفت أطوال الخطوط الحديدية 20 مرة فى الولايات المتحدة حيث لعب بناء السكك الحديدية دورا من الدرجة الأولى فى النصف الثانى من القرن 19 فى غزو الغرب الأوسط والغرب الأقصى وتنشيطهما وهما الملحمة الخرافية التى إجتذبت المستوطنين وساعدت على تقدم الرجل الأبيض فى الأراضى المجهولة وعلى ذلك فإن السكة الحديدية كان لها دور كبير فى توحيد القارة الأمريكية الشاسعة وفى التقدم الإقتصادى لهذه الأمة الشابة وفى فرنسا حيث كان الشاعر فيكتور هوجو نفسه مترددا ثم أضطر إلى تغيير رأيه إذ أعترف بقوله "لا شك .. أن السكة الحديدية شيئ جميل" فأستمر بذلك تطورها ولكنه لم يكن تطورا مكثفا كما كانت الحال فى الولايات المتحدة وفى عام 1833 أكد أحد رجال السياسة أن السكة الحديدية سوف تدعم من الوحدة الوطنية بقوله "إن سكان ولاياتنا القديمة الذين لا تتوقف علاقاتهم العملية سوف يمدون عواطفهم إلى ما وراء البلاد التى شهدت نشأتهم وسوف لا يكون هناك قريبا سوى وطن واحد" وقد تحققت هذه النبوءة فى وقت قصير وذلك بقيام خطوط كبرى على شكل النجمة حول العاصمة حددت الجفرافيا الإقتصادية والإجتماعية للبلاد .
  • من الأمس إلى الغد 
لم يتطور الخط الحديدى نفسه كثيرا منذ مطلع هذا القرن فلقد أصبح إستبعاد القضبان الذى كان 1.435 متر الذى إختاره ستيفنسون منذ عام 1821 لكى يحل محله العرض الذى قدمه ستوكتون دارلينجتون هو الذى إنتشر فى جميع أرجاء العالم تقريبا فيما عدا بعض البلاد مثل الإتحاد السوفييتى وفنلندا اللذين وقع إختيارهما على عرض 1.524 متر وأسبانيا والبرتغال اللتين أختارتا عرض 1.674 متر أما نوع القضبان المستخدمة فيرجع تاريخها إلى عام 1830 فهى تستقر فوق فلنكات من الخشب وظيفتها الإبقاء على درجة الإتساع ثابتة وتوزيع الثقل الواقع عليها بالتساوى ويتغير عدد الفلنكات فى كل كيلو متر وفقا لحجم الحمولة على المحاور التى يحملها الخط وهو عادة يتراوح بين 1600 و1750 فى كل كيلو متر أما القاطرة فقد تعرضت على العكس من ذلك لتعديلات عميقة فقد كانت هناك القاطرة البخارية وبعد أن إستقرت على العرش طوال 125 عاما فإنها تتعرض منذ عام 1940 لكى تستبدل بها أنواع آخرى من وسائل الدفع الملائم مثل محركات الديزل والقاطرة الكهربائية ثم القاطرة التى تسير بتوربينات الغاز وأخيرا فإن ظهور القاطرات ذات السرعات الهائلة يتيح للقطار أن ينافس الطائرة نفسها فى المسافات القصيرة ومن "الشيطان الذى ينفث النار" الذى أخرجه ستيفنسون إلى القطارات الحديثة التى تتجاوز سرعتها 200 كيلو فى الساعة وأكثر فإن السكة الحديدية قد شهدت تقدما هائلا وبالرغم من أنها تواجه منافسة شديدة من جانب وسائل النقل البرى والجوى ليست قريبة من الإندثار فى مواجهة أزمة البترول التى تسجل منذ عام 1974 تحولا كاملا فى الموقف .