بإصلاحات جذرية وحمامات دم أغرقت كل تمرد تمكن خلال عشرين عاما من خلق تركيا الحديثة
"إن الحضارة نار تدمر كل ما حولها" لقد وقع مصطفى كمال أتاتورك على هذا التعبير وهو رجل تركيا القوى أنتهز فرصة أشتعال نيران الحرب العالمية الأولى فعمل على إذكاء سعيرها إلى أن أتت على السلطنة والدين والسيطرة الأجنبية والأمية وحجاب النساء والطرقات السيئة بل وصل بها إلى جمود شعب من الفلاحين ذى عادات ترجع إلى العصور الوسطى وعجز عن الوصول إلى مصاف الأمم لقد أحرق تركيا القرن 19 إن تنفيذ العملية بحيث لا يبقى هذا الرجل الفذ فى سعير نيرانها وأن يبعث حيا من خلال الرماد لعمل فنى بارع .
عندما ولد كمال فى عام 1881 كانت تركيا مجموعة من الشعوب المتخلفة يحكمها سلطان مستبد وتستعمرها أوروبا وكانت فرنسا تسيطر فيها على إنتاجها من الدخان وعلى أرصفة موانيها الكبرى وأستغلال مناجمها وخطوطها الحديدية أما الإنجليز فكان لهم البنك العثمانى وبترول الموصل وكانت الرسوم الجمركية فى موانئ البحر الأسود من نصيب روسيا وكان الألمان يحتفظون برسوم الأرصفة ويحتكرون النقل البرى كما كانت لهم الكلمة العليا فى الجيوش وأخذت خزائن السلطان تنضب وكان الفلاح محروما من الأطباء والمعلمين وهو يشقى فى حقله الذى أحرقه الجفاف .
كان مصطفى كمال أبنا لموظف صغير فى سالونيكا وقد تخرج من المدرسة الحربية العليا برتبة نقيب وكان يشاهد من حوله تهاون الجيش وفقره وجمود الجندى وكان يتردد على نادى له طابع ثورى يعرف بنادى فاتان وقد كان الضابط الشاب يوحى بطبيعتة الثوريه وألقى القبض عليه متهما بأنه صرح قائلا "يجب أن نضع حدا لعاداتنا الآسيوية التى ترجع إلى العصور الوسطى إننا فى القرن العشرين" كان ذلك هو كل برنامجه وهو برنامج خطر .
- إمبراطورية فى المزاد
لقد وصل الأتراك متأخرين فى عام 1288 إلى الأرض التى أصبحت وطنا لهم كانت الأدوار قد تم توزيعها وبدأ عرض المسرحية ولكن كان هناك محل خالى وهو محل متميز ذلك هو محل بيزنطة المتزعزعة وسرعان ما شغله الأتراك وبدأت تلك الشعوب القادمة من آسيا الوسطى والتى تتكون من جنود أشداء وقادة مهرة تلقى الرعب فى القلوب لتحتل بعد ذلك جنوب شرقى أوروبا والبلاد العربية فى الشرق الأوسط .
ومرت قرون كانت الرأسمالية فى الغرب مقبلة على إنطلاقة قوية وعلى طول البوسفور كان السلاطين يحكمون إمبراطورية بالية سبعة أعشارها من أقوام غير الترك من طرابلس وألبانيا وتراقيا واليمن والحجاز وسوريا والعراق وأرمينيا وأخذت هذه الأقوام تثور كل منها بدوره وفى أثناء ذلك حصل الضابط الشاب كمال على أمجاد عظيمة خلال الحروب المتوالية التى إجتاحت بلاده كانت آخر هذه الحروب الحرب العالمية الأولى قد سمحت للحلفاء بتمزيق الإمبراطورية العثمانية كما مكنتهم من تمزيق الأناضول آخر معاقلها وفى مدينة أماسيا الشرقية أعلن كمال التمرد على السلطان محمد السادس يعاونه عدد من الضباط الوطنيين كان السلطان فى ذلك الوقت فى القسطنطينية يستعد لقبول الشروط المهينة للإستسلام .
- زعيم الثورة
لم تكن تلك هى المجموعة الأولى من الضباط الذين أعلنوا الثورة ولكن هدف كمال وأصدقائة لم يكن إعادة بناء الإمبراطورية بل كانوا يرغبون فى إنشاء "الوطن الأم" الذى لم يكن له وجود حتى ذلك الوقت ولتحقيق هذا الهدف كان لابد من البدء بتكوين جمعية وقد أعلنت اللجنة التنفيذية لتلك الجمعية عن قيامها بتشكيل حكومة مؤقته فى 29 أبريل 1920 .
وقد نودى بمصطفى كمال ذلك الضابط اللامع ذى الأفكار الثورية رئيسا لتلك الحكومة ولكن لكى يرأس البلاد كان من الضرورى تحريرها أولا وكانت أخبار معاهدة سيفر المهينة التى نصت على تمزيق تركيا من العوامل التى ساعدت على تضامن الجيش فى القيام بالثورة وبعد نجاح مبدئى ضد الأرمن والإيطاليين والإنجليز قام الأتراك بمواجهة جيش اليونان المتطور وقد تمكن عصمت رفيق كمال وصديقه من إيقافه مرتين بالقرب من إينونو أنتصر كمال فى موقعة ساخاريا الرهيبة ثم أستولى على أزمير وأحرقها وهنا أصبح بالإمكان بل ومن الضرورى إسقاط الإمبراطور .
أخذ المنتصر وقد أطلق عليه إخوانه إسم "الغازى" يفرض آرائه على البرلمان وفى يوم 17 نوفمبر 1922 نزل السلطان من عليائه وغادر البلاد هاربا وهنا تكون الحزب الشعبى التركى وفرضت الرقابة على رجال الدين الإسلامى وأممت البنوك :
ترى من سيفتتح الآن حكم الدكتاتورية ؟
هل هو نبى أم وحش ؟
- الأب
دأ الأمر بالإرهاب فذبح الأكراد لوضع حد لمضايقاتهم وجاء بعد ذلك دور الأرمن وهرب اليونانيون كانت حركة إبادة سابقة لما فعلها هتلر كانت المذابح تتم بقوة القضاء وفى يوم 7 أغسطس أعدم سبعة من الضباط بتهمة المعارضة كانت الصورة ستالينية طبق الأصل وعندئذ ومن خلف هذا القناع القاسى ظهر وجه مصلح من أعظم ما عرفهم التاريخ من المصلحين ولقد نهض بالفلاح فقد زاد إنتاج القمح بمعدل 1600% بفضل الإصلاحات الزراعية وأنشئت الطرق والسكك الحديدية والمصانع ومحطات توليد القوى الكهربية فى بلد كان يعد من أكبر البلاد تخلفا فى العالم ولتطوير البلاد أهتم كمال بإصلاح الإنسان كما قال بعده ماوتسى تونج تحولت الكتابة من العربية إلى الأوروبية وأمتدت شبكة من المدارس لتغطى البلاد وشجع على تحرير المرأة وحظر لبس الحجاب وبدأ رقيق الشرق يتعلم ويعمل على قدم المساواة مع الأحرار .
لم تكن للأتراك أسماء أسرية فأصبح لكل واحد لقبه وكان كمال أولهم فلقب بأتاتورك أى أبو الأتراك وأصبح زعيما بإعتراف العالم أجمع وموضع إعزاز قومه وفى عام 1930 ألغى الرقابة وأنشأ حزبا ثانيا وهو حزب الأحرار المعارض كان ذلك بداية الكارثة فبعد بضعة أسابيع كانت البلاد على شفا حرب أهلية ولقد أدرك الذئب العجوز الذى كان أول ديكتاتور فى العصر الحديث حقيقة الوضع وقضى على القتنة بالدم .
توفى مصطفى كمال يوم 10 نوفمبر 1938 وهو فى قمة مجده وبعد أن أستعادت بلاده حقوقها فى الدردنيل وكانت جنازته من المظاهر الصاخبة التى لم تتكرر إلا فى جنازات لينين وستالين وجمال عبدالناصر كان الشعب يعتقد أنه فقد أبا والواقع أن الشعب التركى وقد تضاعف عدده وأنتقل من البؤس إلى مستوى الشعوب الأوروبية أخذ يتابع طريقه فى موكب الأمم الكبرى .