قال فى مقدمة كتابه العقد الإجتماعى
"إن الإنسان يولد حرا ومع ذلك فهو مكبل بالأغلال فى كل مكان
كيف إذن حدث هذا التغيير ؟
يحتل جان جاك روسو مكانة متميزة بين فلاسفة القرن 18 وبينما كان الموسوعيين وفولتير بصفة خاصة يمتدحون الحضارة التى تتوج فى ظل الرفاهة والفنون الجميلة والأنشطة الفكرية كان روسو يدعو إلى الحياة البسيطة وإلى طبيعة قائمة على الطيبة الأصلية فى الإنسان البدائى وأخيرا فى المجال الثقافى ومن خلال إثارة الوعى وتبرئة الشهوات وحب الطبيعة سجلت مؤلفاته إلى جانب مؤلفات المركيز فوفنارج فى مجال الحركة الأدبية السابقة للرومانسية .
- الطريق إلى المجد
نشأ جان جاك روسو فى أسرة بروتستانتية من أصل فرنسى وقد ولد فى جنيف يوم 28 يونية 1712 وتوفيت أمه أثناء ولادته فتعهده أبوه إيزاك روسو الساعاتى بالتربية وبعد طفولة أحيطت بقدر كبير من الحرية عهد به إلى الراعى لامبرسييه الذى علمه اللاتينية وفى عام 1727 إلتحق تلميذا لدى حفار معروف كان يقسو فى معاملته ولم يكن الشاب المراهق راضيا عن هذا الوضع وكان يفضل القراءة والنزهة فى حقول جنيف وفى ذات مساء من شهر مارس 1728 قرر ألا يعود لمعلمه وهرب سيرا على قدميه فى طرقات سافوى فآوته مدام دى وارن وهى من الأتباع الذين تحولوا إلى الكاثوليكية وأوفدته إلى تورين لكى يعتنق هو الآخر نفس المذهب .
وبعد حياة غير مستقرة زاول خلالها العديد من المهن عاد روسو فى عام 1732 إلى مدام دى وارن فى شارميت وهو منزل ريفى عند مدخل شامبيرى وهناك قضى روسو فترة سعيدة حتى عام 1740 وأتم تعليمه وهو عند تلك السيدة التى أصبح يناديها بأمه ولكن هذا الحب البرئ سرعان ما تكشف عن خديعة فغادر روسو شارميت فى عام 1742 قاصدا باريس وظل طوال 10 سنوات مختلطا بالحياة الإجتماعية وهو يحلم بالشهرة عمل أولا معلما ثم مدرسا للموسيقى ثم سكرتيرا بسفارة فينيسيا وسرعان ما عزل من وظيفته ولكنه ظل يحتفظ بذكرى مريرة لإتصالاته الأولى بالمجتمع وفى عام 1743 حاول أن يلفت إليه الأنظار فقدم إلى أكاديمية العلوم مشروعا ثوريا عن العلامات الموسيقية على أسس حسابية ولكن المشروع لم يلقى نجاحا ثم كتب باليه "أشعار الغزل" عام 1745 وتعاون مع ديدرو فى كتابة الموسوعة ورغم الترحيب به فى الأوساط الإجتماعية إلا أن خجله كان يشعره بأنه غريب عنها لم يكن يجد شجاعة لمغازلة سيدات الطبقات الراقية وأنتهى به الأمر إلى أن عقد صلة مع خادمة فى فندق تدعى تيريز ليفاسيير وأنجب منها خمسة أطفال عهد بهم كلهم إلى المؤسسات الخيرية .
- فلسفة طبيعية
فى أوائل أكتوبر 1749 على طريق فانسين واتاه الإلهام كان روسو يقرأ فى صحيفة بيده الموضوع الذى طرحته أكاديمية ديجون للمسابقة وهو :
هل ساعد تجدد العلوم والفنون على إفساد الأخلاق ؟
وفى "إعترافاته" أشار روسو لتلك المناسبة بقوله "فى اللحظة التى قرأت فيها هذا النص تجلى أمامى عالم آخر وأحسست بأننى صرت رجلا آخر" وعندما كتب "محاضرة فى العلوم والفنون" عرض لأول مرة الفكرة الأساسية لفلسفته وهى أن الإنسان خير وسعيد بطبعه وأن الحضارة والتقدم وبصفة خاصة العلوم والفنون هى التى أفسدت هذه الحالة البدائية وتسببت فى شقاء الإنسان وفى عام 1750 فاز بجائزة أكاديمية ديجون فكان ذلك بداية شهرته وأخذ يتردد على الموسوعين ويناقش الموسيقى مع "جريم" وألف الأوبرا الوحيدة له "عراف القرية" عام 1752 وفى عام 1753 عرضت أكاديمية ديجون مسابقة جديدة كان موضوعها :
ما هو منشأ التفاوت بين الناس ؟
وهل يجيز القانون الطبيعى هذا التفاوت ؟
وفى إجابته عن هذا التساؤل أكد روسو بقوة على المساواة بين البشر فى الحالة البدائية وندد بالأسباب التى تؤدى إلى التفاوت فى حق التملك والظلم وقد تحمس روسو تحمسا شديدا فى كل ما كتبه للدفاع عن هذه الطبيعة السعيدة للإنسان البدائى بل إن حياته ذاتها قد تغيرت فقد كانت أمانته نحو نفسه باعثا له على البحث عن تلك الحالة البدائية والعزم على مقاطعة مجتمع باريس المنحل وكانت أخلاقه الصعبة وأختلافه مع "فلسفة الأنوار" قد أثارت الإنتقاد من حوله فأختلف مع فولتير وديدرو وجريم وألامبرت .
ومن عام 1756 إلى عام 1762 أعتزل روسو فى الريف أولا لدى مدام دبيناى فى الأرميتاج ثم لدى المارشال دى لوكسمبرج فى مونمورنسى حيث كان يقضى حياة بسيطة وحيدة وفى تلك الحقبة لم يكن لنشاطه الخلاق حدود ففى عام 1758 نشر "خطاب إلى دالامبرت حول العروض المسرحية" ندد فيه بالمسرح كتعبير عن الحضارة الفاسدة وفى عام 1761 نشر "هلواز الجديدة" وهى إلهام غنائى ورومانتيكى لغزل فى أحضان الطبيعة وفى عام 1762 ظهرت له "إميل" أو حول التربية وهو بحث تربوى يقوم على مبدأ أحترام التطور الطبيعى للطفل ثم "العقد الإجتماعى" وفيه دافع عن النظام الديموقراطى والحريات السياسية والمساواة الإجتماعية وفى كتابه "مهنة ثقة لكاهن سافويار" أعلن روسو عن عقيدته الإلهية وندد بالدوجمية أو الإيمان بدون تحرى الأسباب ودعا إلى التسامح وقد حظر البرلمان تداول هذا الكتاب وأضطر روسو للهرب .
كان روسو يطرد من كل مكان يحل به فأقام على التوالى فى إيفردون ومواتييه بالقرب من نوشاتيل وفى جزيرة سان بيير فى وسط بحيرة بيين ثم دعاه هيوم فأنتقل إلى إنجلترا وهناك أيضا نشب الخلاف فعاد إلى فرنسا فى عام 1767 وعندما وصل إلى باريس عكف على كتابة "الإعترافات" وكانت آخر أعماله فى مجال السيرة الشخصية قصد بها تبرير آرائه لدى معاصريه ولم تنشر هذه الأعمال إلا بعد وفاته "الإعترافات" 1782 ـ 1789 وقد حظرت قراءتها علنا ثم "ثلاثة حوارات" عرفت بإسم "روسو يحاسب جان جاك" عام 1789 و"أحلام المتريض الوحيد" عام 1782 وقد توفى روسو يوم 2 يوليو 1778 فى قصر إرمينونفيل لدى المركيز دى جيراردان ودفن فى حديقة القصر وفى عام 1794 نقل رماده إلى مدفن العظماء "البانشيون" وبالرغم من أن روسو فى حياته كان هدفا لإنتقادات عنيفة وإفتراءات مكتوبة إلا أن أعماله كان لها تأثير عميق فى مجال السياسة والفلسفة والأدب وفى مجال الفكر كان لبحثه عن التربية وعن المؤسسات السياسية دوى كبير وعن طريق هذا الإهتمام بالإلتجاء إلى التجارب الحسية والملاحظة المباشرة وملاءمة التربية لمواهب الطفل نجد أن "إميل" كان لها تأثير على معاصرى روسو وكذلك على التربية الحديثة وأخيرا وبصفة خاصة فإن روسو وهو يدعو إلى الحرية والمساواة الإجتماعية يعتبر أن الجمهورية هى النظام الوحيد للحكم الديموقراطى كما أن ميرابو دانتون وروبسبير أستندوا كلهم إلى "العقد الإجتماعى" .