حين جمع كوميون باريس شخصيات اليسار المرموقة سنح بإجراء حركة قمع فعالة كانت تعهدا للمحافظين بالهدوء
إنه حدث عظيم يتجاوز إطار العاصمة التى وقع فيها وهو مأساة قام بأدوارها ثلاثة من الممثلين الرئيسيين الكبار هم :
كيان جماعى هو اللجنة المركزية لكوميون باريس
أدولف تيير رئيس السلطة التنفيذية فى الجمهورية الثالثة
وشخص ثالث يبدو أنه شاهد يتحرك فى الظل هو الكونت أوتو إدوارد ليوبولد دى بسمارك مستشار ملك بروسيا غليوم الأول الذى أصبح أثناء وقوع هذه الدراما إمبراطورا لألمانيا .
إنتفاضة وطنية لعاصمة غاضبة لرؤية الجيش الألمانى المنتصر يتتابع تحت نوافذها وحركة ثورية للطبقة العاملة الباريسية التى أحقنها الحصار على باريس وأقلقها ما تنبأ به من مستقبل مشحون بالهموم اليومية وتطبيق منظم لنظريات تأملها طويلا زعماء سياسيون فكان كوميون باريس هذا كله فى آن واحد .
- نكبة 1870
كان الإمبراطور نابليون الثالث قد أعلن فى العام السابق الحرب على بروسيا دون روية وسبق غليوم الأول ملك بروسيا إلى الحرب بإيعاز من رئيس حكومته بسمارك الذى كان يريد التخلص من فرنسا النابليونية حتى يصبح ملكا لقارة أوروبا وكان الإمبراطور نابليون قد أحرز نجاحا سياسيا مرموقا فى الداخل من السياسة الليبرالية التى عهد بتنفيذها إلى رئيس وزارئه الجديد إميل أوليفييه منذ 2 يناير سنة 1870 وهو نفسه الذى صاح فى 15 يوليو سنة 1870 قائلا "إننى أقبل بضمير مرتاح مسئولية الحرب" على حين حذر ممثل معارضة اليمين والمحافظ المتطرف أدولف تيير الحكومة ضد أخطار الحرب مع ألمانيا وما أن أعلنت الحرب حتى حاقت الهزيمة بفرنسا وأندحرت جيوش فرنسا الواحد تلو الآخر وسجن الإمبراطور فى سيدان فى 2 سبتمبر سنة 1870 وأستسلم تماما وبدلا من أن تتولى الإمبراطورة أوجيينى الوصاية على العرش كما كان يتمنى وأكتسحت الإمبراطورية وأعلنت الجمهورية فى مدينة باريس فى 4 سبتمبر سنة 1870 وأنضمت الأقاليم إلى العاصمة فى صمت وأخذ الجيش الألمانى يتقدم حتى حاصر باريس وبينما كانت حكومة الدفاع الوطنى التى تشكلت على عجل تحاول تنظيم جيش اللوار الذى سيثبت عدم كفاءته كان تيير يحاول عبثا التفاوض مع بسمارك بعد بعثة دبلوماسية إلى النمسا وإيطاليا وروسيا وإنجلترا لم تسفر عن أية نتائج ذلك أن بسمارك كان يريد إنتصارا كاملا وفى معمعان الحرب أسفرت الإنتخابات التى أجريت فى 8 فبراير سنة 1871 عن جمعية وطنية جديدة وجد فيها أنصار الإمبراطور المنهزم مكانا ولكن الأغلبية كانت مؤلفة من الملكيين الذين يريدون عودة الملكية التى طردت من السلطة سنة 1830 وأنتخب تيير رئيسا للسلطة التنفيذية فى 17 فبراير ووقع فى 26 فبراير سنة 1871 بقصر فرساى النصوص التمهيدية لمعاهدة السلام مع ألمانيا وسيوقع المعاهدة النهائية فى 10 مايو بفرانكفورت فى الوقت الذى إنفصلت فيه باريس عن بقية فرنسا .
- الثورة
كان الباريسيون الذين أعلنوا الجمهورية لا يحبون أدولف تيير ولا حكومته التى تمثل النظام البرجوازى ولم يكن تيير يحب الباريسيون فهم الذين خلعوا شارل العاشر سنة 1830 ليعيدوا الجمهورية وكان المحامى الشاب أدولف تيير قد أشترك مع الطاقم الذى أستغل الأيام الثورية فى مصلحته لإعادة ملكية لويس فيليب الأول الدستورية وكوفئ على ذلك بإشتراكه فى الحكومة وزيرا للداخلية سنة 1832 وبقى وزير حتى سنة 1836 وبهذه الصفة أخمد بلا هوادة حركات العصيان التى أمتدت من باريس حتى ليون فى أبريل سنة 1834 وحاول أدولف تيير سنة 1848 تأليف حكومة ملكية غير أن الشعب خلعه وأعلن الجمهورية وكان تيير يشعر ببغض الباريسيين له وخشى أن ينتهكوا السلام الذى يتفاوض فى سبيله مع ألمانيا ولم يكن يتحمل فكرة أن تريد باريس أستئناف حرب ستفقدها مقدما كما لم يكن يقبل أن يكون أسيرا للباريسيين فرحل عنها إلى فرساى حيث كان وجود الجيش الألمانى يبعث الإطمئنان فى نفسه .
وكان غضب الباريسيين عنيفا عندما أضيف إلى الحقد الوطنى والقلق على الخبز اليومى وكان من الإجراءات الأولى التى أتخذتها الجمعية الوطنية إلغاء دفع فوائد الأجور والقروض وكان الخوف الذى تشعر به البرجوازية من رد الفعل الشعبى والضغينة التى تعتمل فى صدور الشعب هما العاملان الأساسيان فى إعادة سلطة الشعب وفى 18 مايو سنة 1871 أتاح لها تيير الفرصة بأن سعى إلى تجريد الحرس الوطنى من سلاحه بيد أن الأوامر التى أسئ تنفيذها والأنتظار الذى طال أكثر من اللازم فى ثكنات المدفعية أديا إلى تآخى الشعب مع القوات المكلفة أسترداد قطع المدفعية وحين أراد ضباطهم التملص كان الأوان قد فات فذبح الجنرال ليكونت والجنرال كليمنت توماس وبقيت المدافع فى باريس وسالت الدماء وكانت لدى تيير كل الدوافع اللازمة لإعادة غزو العاصمة وقمع سكانها مستعينا بالقوات النظامية المرابطة فى فرساى .
ولما لم تكن هذه القوات كثيرة العدد فقد أراد بسمارك أن يزيد من أفرادها فسمح بإنتقال الجنود الفرنسيين الذين كانوا أسرى فى ميتز إلى فرساى وكان الدور الذى يلعبه بسمارك رئيسيا ولكنه كان يلعبه بحذر وبينما كان تيير ينتظر اللحظة المواتية للتدخل كان كوميون باريس الذى أعلن فى مساء 27 مارس فى فندق "دى فيل" وفقا لقرار اللجنة المركزية لإتحاد كتائب الحرس الوطنى (المؤلف فى 15 مارس) يضيع منه الوقت ولكنه كان على تفوق عسكرى ساحق وكان يكفيه أن يزحف على فرساى ليشتت الحكومة البرجوازية بيد أن اللجنة المركزية قنعت بالعبارات الملتهبة عن الثورة الوليدة وكانت اللجنة المركزية تريد أن تفعل كل شيئ فى وقت واحد الثورة الإجتماعية والحرب الوطنية وبدأت العناصر المفكرة ترتاب فى العواقب :
هل يمكن أن تتم الثورة والحرب فى آن واحد ؟
كانت اللجنة المركزية منقسمة على نفسها إذ كانت تضم رجالا ذوى إتجاهات مختلفة منهم الثوريون الرومانسيون والصحفيون والعمال وكان المكلف بالجانب المدنى من الحرب هو "شارلى دليكلوز" الذى حارب وراء المتاريس سنة 1830 وسنة 1848 وهو الآن فى 61 من عمره ولم يكن قائدا عسكريا ومن الحق أنه خليق بأن يموت ميته بطولية حين قتل فوق أحد المتاريس عندما ضاع كل شيئ فى 25 مايو سنة 1871 .
أما القائد العسكرى الوحيد فى الكوميون وهو الكابتن لويس روسل الضابط الكفء الذى لم يكن يعنى على الإطلاق بالثورة الإجتماعية وإنما كان كل همه منصبا على سير العمليات الحربية تمهيدا لإستئناف الحرب ضد ألمانيا فقد أنسحب حين قرر أستحالة إقرار النظام بين القوات وحين لمس غباء المدنيين التام الذين يريدون قيادة الحرب بدلا منه وقد أعدم رميا بالرصاص بعد أن حوكم محاكمة عسكرية فى فرساى .
- اللجنة المركزية
كانت اللجنة المركزية تتألف من أمورو آرثر آرنو وآفريال وبليوريه وكامياينا وشامبى ج .ب كليمنت وكلوسيريه وكوربيه وكورنيه ديليكلوز وديرير وكلوفيس ديبون وتيوفيل فيريه وجوستاف فلوران وجامبون بسكال جروسيه وجوهانار وجورد ولانجفان لفرانسيه وشارل لونجيه وجول ميلين وميو أوليس باران وباريسل وبوتييه وبروتو وفيلكس بيا آرثر رانك وراستول وراءول ريجو وترانكيه أوربان وإدوار فايان وجول فاليز وأوجين فارلان فردور وفيزينييه وفيار وقد قتل معظمهم أثناء التراشق بالرصاص الذى حدث فى الأسبوع الأخير أو حكمت عليهم بالإعدام المحاكم العسكرية أما المحظوظون منهم فقد نجحوا فى الهرب إلى الخارج أو عاشوا حتى تقرر ترحيلهم إلى كاليدونيا الجديدة وذلك أن تيير عاقب بقوة أولئك المسئولين عن هذه الإنطلاقة الشعبية الرائعة التى ستبقى خالدة إلى الأبد ولقد كانت اللجنة المركزية مجلسا يضم صنوفا شتى من الناس يجلس فيه نواب باريس إلى جانب قواد كتائب الحرس الوطنى إلى جوار مهيجى الأحياء والثوريين المحترفين وأصحاب الحوانيت والعمال وإن كان فيه أيضا بعض المعتدلين ولم يكن فى هذه اللجنة زعيم ولم يخرج منها قائد وكانت المعارك بين الأشخاص والمشاجرات بين الأحزاب سببا فى أن جعلت تصرفاتهم السياسية عقيمة بقدر ما جعلت حركتها الحربية غير مجدية وبينما كانت المخارج من الحصار يفشل بعضها إثر بعض بسبب سوء الإستعداد ونقص الجنود ومبارحة الحراس لمواقعهم كانت اللجنة المركزية تكثر من أقوالها وتوقع البيانات وتعد قرارات بلا موضوع مثل القرار الذى ألغت به التجنيد فى 29 مارس 1871 أو تقرر التعبئة العامة للرجال من سن 19 إلى سن 40 فى 7 أبريل 1871 ولم يكن هناك عدد كافى من المدربين أو المهمات ومع ذلك كانت الكتائب تضم عددا من الجنود أكثر من أهالى فرساى وكان الأتصال بالخارج معدوما ولاسيما بكوميونات ليون ومارسيليا وفضلا عن ذلك كانت الأقاليم تناهض كوميون باريس فهى فى أغلبيتها تؤيد النظام والنظافة وتناصر تيير .
ومنذ الخامس من أبريل أرتكب الكوميون خطأ سياسى فادح إذ أراد أن يخيف البرجوازية وأن يتمكن من التفاوض مع فرساى فأصدرت اللجنة المركزية قرارا بالقبض على الرهائن وكان على رأسهم أسقف باريس والجنرال داربوا وراعى كنيسة المادلين وعدد من الآباء الدومينيكان والقساوسة ورجال الدين وعلية القوم ورجال الشرطة وبلغ مجموع هؤلاء الرهائن 600 ولم يكن تيير يهتم بهؤلاء الرهائن ولا يعبأ بمصيرهم بل وفضلا عن ذلك فإنهم يخدمون سياسته حين يثيرون سخط أنصار النظام وكلما ضاعف الكوميون قراراته الخاصة بالنظام الإجتماعى مثل وضع الورش التى تركها أصحابها فى أيدى العمال كلما أزداد توغله فى طريق التطرف وفى 27 أبريل عين ريجو مقررا للكوميون وفى أول مايو أنشئت لجنة "الخلاص العام" .
- الأسبوع الدامى
وفى 21 مايو 1871 دخل جيش فرساى باريس من تغرة فى الدفاع كانت تخلو من الحراسة وفى خلال أسبوع أخذ يستولى على باريس حيا إثر آخر وكان القتال بلا رحمة ولم يكن فيه أسرى وبلغ من قسوته أن الثوار ردوا على هذا الهجوم بذبح الرهائن ومنهم أسقف باريس وحوالى 60 آخرين فى عدة أيام وفى أثناء المعارك أشعل رجال الكوميون النار فى المبانى العامة كالتويلرى وفندق دى فيل ووزارة المالية والقصر الملكى وديوان المحاسبة ومستودعات ميناء فييت وأستمر الأسبوع الدامى من 23 إلى 28 مايو وتمخض عن 30.000 من رجال الكوميون وستعقبه مذابح لا يمكن أن نحصر عدد ضحاياها وأستطاع 11.000 سجين أن يصلوا إلى فرساى لكى تحاكمهم المحاكم العسكرية وأعدم أشجعهم وأشهرهم رميا بالرصاص وعلى الطريق المؤدى من باريس إلى فرساى كان نساء الطبقة الراقية يفقأون عيون المتأخرين عن زملائهم بضربات المظلة وكسب تيير هذه الجولة وخرج شعب باريس مقهورا وظل على هذه الحال سنوات طوال وساد النظام فرنسا كلها .
ولما كان المنتصرون هم الذين يكتبون التاريخ فقد تحمل كوميون باريس طويلا الخزى والعار وذكرى الرعب الذى ألقاه فى القلوب وكثيرا ما أستعاد الناس ذكرى إعدام الرهائن وما كان هذا الإعدام ليبرره ذلك القمع الذى فرض بلا شفقة أو رحمة وقد كتب باكونين الفوضوى الروسى وأحد زعماء الدولية قبل وفاته بقليل عام 1876 "أنقضى عهد التمرد" وكان هذا هو الحكم الذى أصدره على الفشل المتعاقب الذى منيت به جميع الحركات الثورية التى هزت أوروبا منذ 1830 وهذه هى النتيجة التى فرضت على موجهى الحركة العمالية وقد آثروا منذ ذلك الحين فصاعدا أن يتخذوا الطريق الأبطأ بدلا من الثورة لأنهم يعتقدون أنه فى نهاية الأمر أشد فعالية ونعنى به طريق الإصلاحات بوساطة الإنتخاب العام .
وجاء لينين فوضع هذا كله موضع التساؤل من جديد فى الثورة الروسية أكتوبر 1917 وكان متمسكا بدعوى كارل ماركس القائلة إن كل ثورة صدع والمجتمع الجديد الذى هو ديكتاتورية الطبقة العاملة يشيد على الأنقاض وقد لجأ إلى العنف مبتعدا عن آثار كوميون باريس ولكنه سيكون زعيما حازما تشد من أزره جماعة من الرجال الذين تكونوا على أساس عقيدته تكوينا متينا كما كان يتحكم فى قوة عسكرية منظمة يقودهم ضباط محترفون وهذا هو كل ما كان ينقص كوميون باريس وكان هذا النقص سببا فى هلاكه .