النظريات السياسية الكبرى



إن الإنسان منذ أن قبل أو شرع فى أن يحيا حياة إجتماعية 
أصبح حيوانا سياسيا 
السياسة هى فن حكم المدن والمجتمع والدولة حكما تشريعيا وهو فن يرجع إلى أقدم العصور الحضارية وأقتضى العديد من النظريات التى يغلب عليها التناقض وصعوبة التوفيق فيما بينها وعندما نستعرض كافة النظريات التى وضعت على مدى القرون نجد أنها تنقسم إلى مجموعتين إحداهما تعمل على إخضاع الحرية الفردية لسلطة الحكومة والثانية تعمل على توسيع مدى الحقوق الفردية وتحديد الحقوق الإجتماعية وعلى مدى تلك القرون كانت هاتان النظريتان تتصارعان وتختفى إحداهما أو الأخرى أو يجرى إستبدالهما .
والنظريات التى ترمى إلى تحديد الحقوق المشتركة للفرد والدولة تحديدا متوازنا وعادلا تستند إلى الديموقراطية أما النظريات الأخرى فتستند إلى الإستبداد فالديموقراطية والإستبداد واجهت كل منهما عدة تطورات وتعديلات وإضافات وقد قدم أبراهام لنكولن ( 1809 ـ 1865 ) رئيس الولايات المتحدة الأمريكية تعريفا أساسيا للديموقراطية بعبارته الشهيرة "بأسم الشعب وبالشعب ومن أجل الشعب" أما مونتانى ( 1533 ـ 1592 ) فقد قدم نقدا قاسيا فى إحدى صفحات "رسالته" قال فيه "إن عدد الأغبياء يفوق عدد الأذكياء بدرجة لا أستطيع معها أن أجد مبررا لقبول آرائهم" .
وفيما بين الديموقراطية التى لا حدود لها التى تنادى بها روس باكونين ( 1814 ـ 1876 ) والإستبداد المطلق توجد درجات عديدة من الملكية الربوبية فى التبت إلى ملكية الحق الإلهى والوراثية والملكية الدستورية مرورا بالحكم المستبد إلى أن نصل إلى الديموقراطية الرئاسية كما هى الحال فى الولايات المتحدة الأمريكية أو الديموقراطية الشعبية كما فى بلاد شرق أوروبا منذ بضع عشرات السنين .
ويميل الغربيون عادة للنظر إلى التاريخ العام من زاوية حضارتهم الموروثة عن الحضارة اليونانية اللاتينية والواقع أن أوروبا لم تحتكر النظريات السياسية فآسيا بصفة خاصة لديها العديد منها وفى هذه الحالة أيضا تنحصر تلك النظريات فى مجموعتين رئيستين مجموعة الديموقراطية وكان أشهر واضعى نظرياتها الفيلسوف الصينى منشيوس ( 372 ـ 289 ق . م ) الذى كان معاصرا أرسطو ومجموعة السلطة المطلقة وتمثلها أسرة تسن فى القرن الثالث قبل الميلاد .
  • العصر اليونانى اللاتينى القديم 
كان اليونانيون إبتداء من القرن الرابع قبل الميلاد يتساءلون عن أصل وطبيعة الحكومة وعن أحسن الدساتير وأفضل نظم الحكم الكفيلة بتيسير الحرية والعدالة للإنسان فى إطار من الأمن ومنذ البداية كانت المفاهيم تبدو متباينة فيما بينها فكان بريكليس ( 495 ـ 429 ق . م ) الزعيم السياسى بالإجتماع للحزب الديموقراطى قد هيأ لأثينا الحرية والنصر على إسبرطه التى كانت تمثل نظام الحكم المضاد وذلك بإجرائه خمس عشرة دورة إنتخابية متتالية نجد أن ديموسثينيس ( 445 ـ 386 ق .م ) يتبع نفس السياسة ويضيف إليها عنصرا قوميا فى حين أن أفلاطون تلميذ يعرض نظام حكم مختلف عن ذلك كل الإختلاف .
أما أفلاطون ( 429 ـ 347 ق . م ) فيستعرض فى "المأدبة" وكذلك فى "الجمهورية" الخطوط العريضة لحكومة لا تقوم على إرادة الأغلبية ولكن على كفاءة الأفراد الذين يتمتعون بأكبر قدر من المعارف والإحساس بالمصلحة العامة مع القدرة على مزاولة السلطة وهؤلاء هم الفلاسفة وقادة الجيش والنبلاء .
ويحدد أرسطو ( 384 ـ 322 ق . م ) وهوتلميذ أفلاطون وقد لازمه طيلة عشرين سنه فى رسالته عن "السياسة" نفس أفكار أفلاطون حول الطبقة الحاكمة ولكنه يرى أن لكل نظام مصاعبه وأنه لذلك يجب السعى إلى تعزير الحكومة بإستغلال مميزات كل من النظامين ومن المهم أن يكون الحكم فى أيدى طبقة متوسطة تكون هى عماد مجتمع ثابت ودائم ومن طبقة أصحاب الأملاك نحصل على القضاة أما الشعب فهو "المجلس" .
وقد ظل العالم المتحضر طيلة عشرة قرون بعد الإضمحلال الوقتى لغزوات البربر يستمد نظام الحكم من نظريات أرسطو التى ظلت لفترة طويلة غير قابلة للمناقشة حتى ولو كان الواقع المطلق يبرز مفاهيم مختلفة وقد أدى غزو الرومان لليونان إلى إنتقال مقر المذاهب السياسية إلى روما وفى هذا المجال كما فى غيره من المجالات لم يكن الرومان سوى مقلدين ونذكر منهم شيشرون ( 106 ـ 43 ق . م ) الذى أكتفى فى "جمهوريته" بالتعليق على آراء أرسطو وتكييفها مع ظروف عصره .
  • الإمبراطور الإله 
عندما أعلن أوكتافيوس ( 63 ق . م ـ 14 م ) نفسه إمبراطورا بأسم أغسطس ووضع نفسه فى مصاف الآلهه تسبب فى تغيير النظرة المعتاده للحاكم وقد ظل الفلاسفة طيلة قرون عديدة يتدارسون العلاقة بين الآلهه سواء كانت وحدانية أو متعددة وبين الحكومة وعندما أعتنق قسطنطين الأول ( 270 ـ 337 ) الديانة المسيحية غير من هذه الأوضاع فهو لم يعد إلها ولكن رسول الإله وسرعان ما نشأ الصراع بين الرسول المؤقت للرب أى الإمبراطور وبين المندوب الروحى أو البابا وتلت ذلك الفترة التاريخية الطويلة الخاصة بوضع الدين والكنيسة داخل الدولة ومن ألمع العلماء المبرزين فى هذا المجال نذكر القديس أوغسطين ( 354 ـ 430 ) وكتابه "مدينة الله" وكذلك القديس توما الأكوينى ( 1225 ـ 1274 ) وكل منهما يؤكد على تفوق ما هو ربانى على ما هو دنيوى كما أن كلا منهما كان مصدر إلهام لكثير من الباحثين وإنا نجد تأثيرهما متغلغلا فى كتابات الفرنسى جوزيف دى ميستر ( 1753 ـ 1821 ) الذى يعد أخر أنصار هذا المبدأ .
  • الإسلام والديموقراطية 
جاءت الديانة الإسلامية فبددت بنور رسالتها غياهب العصر الجاهلى وأنتشرت مبادئها وتعاليمها القائمة على الشورى فى الرأى والعدالة بين الأفراد والمساواه فى واجبات المواطن وحقوقه قال تعالى "وأمرهم شورى بينهم" و"لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم فى الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين" ويتمتع فى ظله المسلمون والشعوب المنضوية تحت رايته بحرية العقيدة وحرية الرأى وللفرد آدميته وللمجتمع كرامته حتى أزدهر الفكر الإسلامى وأصبح العرب مركزا للإشعاع الحضارى وبرز العلماء والفلاسفة العرب وغدت كتبهم ومؤلفاتهم مراجع تدرس فى الجامعات الأوروبية ولعب الفكر العربى دوره فى التراث الحضارى للإنسانية بما أثر عنه من مبادئ وتعاليم مستمده من الدين الإسلامى .
  • السياسة الواقعية 
بظهور ماكيافيللى ( 1469 ـ 1527 ) تغيرت النظره بكتابه "الأمير" ولعل ماكيافيللى دون أن يشعر إستعاد جزءا كبيرا من نظريات الجنرال الصينى صن تسى ( 500 ق . م ) فى مؤلفه عن الفن العسكرى بإعتباره وسيله سياسية وهنا نجد أن الأخلاق والإراده الإلهيه والفضيلة فى رئيس الدولة لا أعتبار لها إذ أن الإعتبار كله للكفاءه وهو يعتبر رئيس الدولة فوق القوانين وأن الغاية تبرر الوسيلة كما يعتبر أن الخداع والغش والكذب والإغتيال وسائل سياسية كغيرها من الوسائل وإبتداء من ماكيافيللى يبرز عدد كبير من المفكرين والتطبيقيين مثل جورج سوريل ( 1347 ـ 1922 ) وكتابة "تأملات حول العنف" وشارل ديجول الذى عرض وجهة نظره فى كتابه "نصل الحسام" أو الديكتاتوريين موسولينى وأدولف هتلر وستالين .
وظهر إتجاه آخر قاده دانتى ألليجييرى ( 1265 ـ 1321 ) الذى عرض نظره جديدة فى كتابه "الملكية" أسماها "الحياة الجديدة" وهى النظره التى ستقابلها على مدى القرون التالية وبصفة خاصة مع رسول السلام العالمى برناردين دى سان بيير ( 1737 ـ 1814 ) مؤلف "تأملات وحيد" والتى ستزدهر مع مولد عصبة الأمم فى أعقاب الحرب العالمية الأولى ثم هيئة الأمم المتحده حاليا .
  • العصر الحديث 
الإستبداد وهو الذى عرف على مدى القرون بأسماء مختلفة مثل الملكية المطلقة والفاشية والنازية والنظام الدستورى بشكله الحديث كان لهما مفكروهما منذ القرن 16 نذكر منهم الإنجليزى توماس هوبز ( 1588 ـ 1679 ) مؤلف "التنين الجبار" أو ليفياثان الذى عبر فيه عن التشاؤمية نحو طبيعة الإنسان فهو يصفه بالسوء البالغ وبأنه ضحية لغرائزه وشهواته وهو لذلك يحتاج لوصاية دائمة يقوم بها حاكم يتمتع بسلطات لا حدود لها وقد إستعاد كثيرون من الفلاسفة نظرية هوبز وأدخلوا عليها أحيانا بعض التعديلات كما فعل فى منتصف القرن 18 علماء الإقتصاد الطبيعيون وهم الذين ينادون بحرية التجارة وإستخدام الأساليب العلمية فى الزراعة والذين نادوا بحكم مطلق واضح يقدم من أعلى الإصلاحات التى يتمناها غيرهم عن طريق النظام الدستورى ومن ألمع أنصار هذه المدرسة تيرجو ( 1727 ـ 1781 ) الذى بذل جهده لإنقاذ حكم لويس 16 .
وفى مواجهة العلماء الطبيعيين نجد الفلاسفة أصحاب المبدأ الدستورى الذى يمنح الشعب الضمانات اللازمة لصيانة حقوقه وينادى إنجليزى آخر هو جون لوك ( 1632 ـ 1704 ) برأى معارض لرأى هوبز وقد وضع فى كتابه "مقالة فى العقل البشرى" ونادى فيه بالتسامح وبحكومة تقوم على أسس ديموقراطية وبعكس هوبز يعتقد لوك أن الإنسان خير بطبعه وهو بذلك يسبق جان جاك روسو فى "الأخلاق" أما مونتيسكيو ( 1689 ـ 1755 ) ففى كتابه "روح القوانين" يضع أسس الديموقراطية الحديثة بتفريقه بين السلطات الثلاث الرئيسية المستقلة وهى التشريعية والتنفيذية والسلطة القضائية .
ثم جاء روسو ( 1712 ـ 1778 ) بمؤلفه "العقد الإجتماعى" فقلب الأوضاع الإجتماعية فى عصره رأسا على عقب وفتح الطريق أمام الثورة الفرنسية العظيمة عام 1789 والتى ما تزال أثارها ملموسة وبعكس لوك نجد أن روسو لا يقر تفويض الأمر للسلطتين التنفيذية والتشريعية بل إن الشعب نفسه هو المعبر عن الإراده العامة والتى يجب أن يمارسها من خلال وسائل ظلت غير محددة وكان روسو هو المصدر الذى إنبعث منه نظام المجالس الذى ميز الجمهورتين الفرنسيتين الثالثة والرابعة .
أما واضعوا النظريات الإشتراكية فظل عددهم قليلا حتى نهاية القرن 18 ولا يوجد سوى توماس مور ( 1478 ـ 1535 ) الذى طرق الموضوع بكتابه "الخيال" الذى تخللته بعض الأفكار المسيحية والراهب كامبانيلا ( 1568 ـ 1639 ) الذى دفع ثمن تبريره للإشتراكية فى كتابه "مدينة الشمس" بوضعه فى السجون لمدة 25 سنة ومن وجهه آخرى نجد أن جراكوس بابوف ( 1760 ـ 1797 ) رائد الدعوة للمساواه أساس نشأة الحركة الإشتراكية فى القرن 19 بفروعها العديدة التى تشمل المفكرين الخياليين أمثال سان سيمون وفورييه وكونسيديران وكابيت وجورج صاند وغيرهم وتشمل أيضا واضعى نظريات الفعل المباشر أمثال برودون وكارل ماركس وأنجلز وباكونين وجيل جواسد وغيرهم كما تضمن المصلحين مثل روبرت أوين مؤسس الحركة التعاونية وألليمان .
أما الأحرار فلم يكونوا أقل نشاطا ونذكر منهم جيزو وفيكتور كوزان وإدجار كينيه وغيرهم كما أن المسيحية الإشتراكية أستعادت قوتها وحيويتها بعد توماس مور بفضل لامينيه ومن بعده ألبرت دى مون لكى تتحول إلى النقابية المسيحية كما نعرفها اليوم أما العلمانيون الذين كانوا يهابون الحرق أحياء فى عهد الإضطهاد الدينى فقد أخذوا يعبرون عن آرائهم بمراره بقلم البارون دى هولباخ ( 1723 ـ 1789 ) مؤلف "نظام الطبيعة" وقد إستجابوا لهذا الفيلسوف إستجابة واعية وبصفة خاصة فيما يتعلق بإلغاء السلطة الدنيوية للبابا فى إيطاليا وبالفصل بين الكنيسة والدولة فى فرنسا فى عام 1905 .
ومع القرن العشرين ظهرت مبادئ جديدة مع النقابية الثورية التى تنبأت بالصدام بين الحكومة والطبقة العاملة بإستخدام سلاح فعال هو الإضراب وهو يكفى أن يقف العمال مكتوفى الأيدى لكى تهبط السلطة بين أيديهم وكذلك النقابية الإدارية التى أستطاعت الإنسجام مع الديموقراطية ولا شك فى أن الأجيال الشابة القادمة سوف تبتكر أشكالا آخرى لنظم الحكم فالطريق مفتوح أمام قوة الخيال .