محمد يوسف الجندى

كان هذا الفتي نموذجا غريبا باع كل ما ورثه عن أبيه وسلم ثمنه للتنظيم من أجل شراء مطبعة سرية إنه نموذج لا يتكرر إلا عند الرهبان إذ يهبون كل ثروتهم للكنيسة وبعدها يبدأون مسيرة الرهبنة
جيل بيرو في كتابه «رجل من طراز فريد» متحدثا عن محمد الجندي كما يعرف الجميع هو ابن هذا الرجل الذي اشتهر في تاريخ مصر الحديثة بأنه «إمبراطور زفتي» في خضم ثورة 1919 نشأت موجة ثورية ترفض الخضوع لسلطة الحكم العميلة للاحتلال والخضوع للاحتلال نفسه ومن ثم أعلنت استقلالها ولم يكن هذا نزوعا نحو تقسيم الوطن وإنما كان إشهارا لرفض الخضوع للاحتلال وعملائه ففي المنيا والمطرية وزفتي أعلنت جمهوريات تحت قيادات محلية وكان يوسف الجندي هو مفجر الثورة في «زفتي» ورئيس مجلسها الثوري ويصبح الثوري الشاب فيما بعد نجما وفديا لامعا ووكيلا لمجلس الشيوخ ووزيرا ومع رحيله ترك ثروة متواضعة نال محمد منها 16 فدانا وعددا من السندات لكنه ترك له ما هو أهم ذخيرة لا تفني في عشق الوطن والشعب.
وفي مدرسة الإبراهيمية الثانوية تقابل مع تيار يساري تواجد في هذا المناخ الذي تشكل علي طلقات مدافع ستالينجراد ضد غزو النازي وبدأ في دراسة الأفكار الاشتراكية عثر علي نسخة من دستور الاتحاد السوفيتي وانبهر بعبارات مثل «حكم العمال والفلاحين» «الاشتراكية» «حرية الشعوب» وأمسك قلما وكتب مقالا في مجلة وفدية اسمها «الشعلة» تحدث فيه عن الاتحاد السوفيتي ودستوره وأكد ويا للغرابة أن نهاية النازي ستكون علي يدي دولة العمال والفلاحين وتكونت شلة من الأصدفاء تحكي وتحكي عن الاشتراكية وعن العدل وعن الاستعمار لكن الأمور ظلت غامضة أما الشلة وهي مكونة من محمد وأخيه أحمد وجمال العطيفي وعبدالقادر العايدي، وبعد حديث طويل عن العمال قرر الأربعة أن يشتغلوا في الإجازة الصيفية كعمال وسافروا جميعا إلي زفتي ليعملوا هناك لكنه لم يكتف بالعمل اليدوي الشاق بل كون جمعية للنهوض بزفتي وفي النادي نظم سلسلة من المحاضرات ثم ألقي عدة محاضرات في مقر شعبة جماعة الإخوان المسلمين ومع بدء العام الدراسي عادوا إلي القاهرة لكن محمد واصل هواية إلقاء المحاضرات في أي مكان متاح وفي شعبة الإخوان بحي السيدة زينب تألق في سلسلة محاضرات عن «العدل الاجتماعي في الإسلام» والعين اليقظة تلتقطه وتحدد له موعدا مع حسن البنا الذي حاول ضمه للإخوان لكنه أفلت من بين يديه متحصنا بالملامح اليسارية التي سمعها من أبيه وبالمناقشات السياسية في المدرسة وعندما وصل إلي التوجيهية «العام الأخير في المرحلة الثانوية» يؤسس جمعية البعث الاجتماعي ويكون أول بند في برنامجها «إلغاء الملكية الفردية لوسائل الإنتاج» ويلاحقه الإخوان فيقنعونه بإضافة بند عن «تطبيق الشريعة» لكنه يعود فيفلت منهم ويصل عدد أعضاء جمعيته إلي ثلاثين عضوا منهم فؤاد محيي الدين طبعوا البرنامج بقروش المصروف اليومي ووزعوه في الجامعة والمدارس وذات يوم دعاه صديق قديم هو محمد زكي هاشم ليستمع إلي محاضرة له عن «الملكية الزراعية في مصر» وذهب محمد وجماعته وللمرة الأولي يستمعون إلي منطق اشتراكي متسق ومتكامل وكان محمد زكي هاشم عضوا في منظمة الحركة المصرية للتحرر الوطني ودعاهم إلي محاضرة أخري في «لجنة نشر الثقافة الحديثة» فذهب هو وأخوه أحمد وجمال العطيفي وهناك التقوا بسعيد خيال ونعمان عاشور ومصطفي كامل منيب وأنور عبدالملك ثم دعوه إلي محاضرة أخري في نادى آخر هو «دار الأبحاث العلمية» وهناك التقي بالشهيد شهدي عطية الشافعى وعبدالمعبود الجبيلي ومضي محمد الجندي كالمسحور اجتذبه وهج الشمس الجديدة التي أشرقت في وجدانه فثمة كتب ماركسية باللغة الإنجليزية يجري تداولها بحذر شديد وحلقات حوارية تناقش قضايا جديدة عليه تماما الفلسفة المادية التاريخية والمادية الجدلية والاقتصاد السياسي وهج الفكر الجديد اجتذبه تماما نسي كل شئ إلا هذا الوهج فاندفع معه وبه إلي أقصي مدي وبعد أربعة أشهر دعاه شهدي عطية إلي لقاء خاص وعرض عليه أن ينضم إلي منظمة إيسكرا «شرارة» قاطعه محمد قبل أن يكمل الجمل مؤكدا موافقته ومتسائلا لماذا انتظرتم كل هذه المدة واستقر الحلم في قلبه وعاش من أجله حتي آخر نسمات الحياة .
كان ذلك في عام 1945، وكانت الحركة الوطنية تلتهب وتتصاعد معها إرهاصات العمل الوطني ضد الاحتلال وضد القصر الملكي كان محمد ينشط بحماس ولكن بحذر أما أخوه أحمد فكان حماسه أقل وبلا حذر فتعلقت أنظار الأمن بأحمد وكان بيتهما في شارع معمل البارود بالقصر العيني مكانا لعشرات من الاجتماعات وكان المقر الذي تأسست فيه النواة القيادية «للجنة الوطنية للطلبة والعمال» بينما كانت الاجتماعات الموسعة تعقد في ملاعب ومدرجات كلية الطب وذات يوم فوجئ محمد بحوالي مائتين من العمال يحتشدون في مدخل البيت ليعقدوا اجتماعهم عنده كانوا يعتزمون عقد اجتماع للهيئة التأسيسية لاتحاد العمال لكن الأمن طاردهم فتواعدوا والتقوا ثانية حيث قادهم أحد الرفاق إلي بيته .
وكان الأمن قد ضاق ذرعا بهذا النشاط وبتحويل منزل يوسف بك الجندي إلي محل لمقابلات تنظيمية وتجمعات عمالية لكن ذلك كله كان منسوبا إلي أحمد وليس إلي محمد وفي حملة 11 يوليو 1947 التي شنها الطاغية صدقي ضد كل قوي التقدم واليسار صدر أمر بالقبض علي أحمد فاختفي ومن قبيل الاحتياط اختفي معه محمد وعاشا هاربين في بيت صديقهما القديم جمال العطيفي .
ونواصل المسيرة مع محمد الجندي فعندما هربت من القصر العيني طلب البوليس من أسرتي صورة لينشرها في الصحف ليطلب إلي المواطنين الإبلاغ عني لكن أخي أحمد أعطاهم صورتي وأنا في الثالثة من عمري .
محمد الجندي في حواري معه وعندما تتم الوحدة بين ايسكرا و منظمة الحركة المصرية للتحرر الوطني وتأسست منظمة حدتو عام 1947 أصبح مسئولا عن قسم المثقفين تم تأسيس قسم جديد للأقاليم ضمت قيادته كلا من محمد الجندي وفؤاد عبدالحليم وحمدي عبدالجواد وبهاء فهمي وإبراهيم المناسترلي وكلف محمد الجندي بالعمل في منطقة بحري ترك الأسرة والبيت وتبرع بميراثه كاملا للتنظيم وترك الكلية «كان طالبا في الليسانس» وأصبح محترفا وقضي أيامه هاربا متنقلا بين خلايا التنظيم في قري بحري تنقل بين قري عديدة ومساكن عديدة في الزقازيق وطنطا وزفتي وجند وهو هارب عديدا من زملائه القدامي في الدراسة مصطفي درويش «الناقد السينمائي الشهير» وإبراهيم خلاف وبهي الدين الرشيدي «أصبح سفيرا فيما بعد» وفيما هو يتردد علي القاهرة بحثا عن زملاء جدد قبض عليه وما أن أفرج عنه حتي هرب مرة أخري في هذه الأثناء اتصل النقراشي باشا «كان رئيسا للوزراء» بأسرته طالبا مقابلته لعله يقنع ابن زميله القديم يوسف بك الجندي لكن أسرته لم تكن تعرف له عنوانا وأخيرا قبض عليه النقراشي وقتل والأحكام العرفية معلنة وأوامر الحبس مطلقة تنقلوا به بين سجون عدة وأخيرا قدموه للمحاكمة أمام أكثر المستشارين قسوة «المستشار حسين طنطاوي» وأخيرا أيضا اتصل بأسرته وحكم عليه بالسجن خمس سنوات مع الشغل الأسرة تدخلت مستعينة بتاريخ الأب فنقل إلي القصر العيني ثورة يوليو تأتي ولم تقبل الإفراج عنه وعن زملائه نظمت حدتو هروبه هو وشريف حتاتة شريف سافر مباشرة إلي بورسعيد ومنها هرب إلي الخارج وهو بقي في القاهرة ليقيم في بيت صلاح حافظ ثم يوسف إدريس ثم الضابط أحمد حمروش ثم إلي بيت الضابط عثمان فوزي الذي اصطحبه إلي بورسعيد ومستعينا برتبته الرفيعة في سلاح الفرسان أمكنه أن يهربه إلي إحدي السفن خبأه البحار المنوط بتهريبه في قاع المركب لمدة 14 يوما حتي وصل إلي مارسيليا وهناك جرده البحار من كل شئ النقود وحتي الساعة والجوانتي ثم أركبه القطار إلي باريس ليجد الرفيق يوسف حزان في انتظاره وأقام في منزل أحد رفاق المجموعة المصرية التي كانت تتخذ لها اسما حركيا هو مجموعة روما هو في باريس هاربا بلا أوراق انتسب إلي مدرسة أليانس فرانسيز ليحصل منها علي كارنيه طالب وليحصل أيضا علي وجبات طعام رخيصة في مطعم الطلبة وتفرغ بقرار من المجموعة لدراسة اللغة الفرنسية والترجمة فترجم كتاب "الديمقراطية الجديدة" للقائد الصينى ماوتسى تونج وعديدا من الكتب الماركسية ومضت الأيام هو يترجم ويوسف حزان يكتب علي الاستنسل ثم يطبع مئات النسخ لتقوم المجموعة بتهريبها إلي مصر وأخيرا قبض عليه «هارب بلا أوراق» كان رفاقه قد لقنوه في البداية لا تتكلم إلا أمام قاضي التحقيق وأمام القاضي حكي حكايته وأمر القاضي بإيداعه في السجن وكان واحدا من أسوأ السجون الفرنسية لا تختلف مرارته عن مرارة السجون المصرية وأخيرا نجح رفاقه في أن يحصلوا له علي حق اللجوء السياسي في المجر وهناك أصبح عضوا في السكرتارية الدولية في اتحاد الشباب الديمقراطي العالمي لكن الحركة الشيوعية العالمية كانت تصمم علي اعتبار ثورة يوليو انقلابا أمريكيا وهو يصمم علي موقف حدتو التي تعتبرها حركة وطنية معادية للاستعمار اختلف مع المسار العام 
فهل يمكن الاختلاف مع المسار العام؟ 
طرد من السكرتارية الدولية فانضم للجماعة ليدرس اللغة الروسية واكتفي بمرتب الطالب وأخيرا تلقي قرارا بالعودة إلي مصر فسافر إلي ألمانيا الديمقراطية وهناك التقي يوسف حلمي وزوده يوسف بجواز سفر مزور سافر به إلي برلين الغربية ومنها إلي جنيف حيث أقام لوقت في منزل خالد محيي الدين الذي كان منفيا هناك واصطحبه خالد إلي باريس بسيارته ومن هناك اصطحبه يوسف حزان إلي روما ومنها إلي الخرطوم حيث دبر له الرفاق السودانيون جواز سفر سودانيا مزورا وبالقطار إلي القاهرة حيث أقام في بيت فاروق ثابت وإذ تلتهب مصر حماسا ضد العدوان الثلاثي تدرب علي حرب العصابات وانتقل إلي منطقة القنال وإذ ينتهي العدوان يرسله التنظيم إلي الدقهلية التي كانت أهم المناطق الحزبية وقرر أن يتزوج ولكن كيف لهارب بلا أوراق أن يتزوج؟ الزوجة وافقت.. فقط لا تقولوا لأبي أنه هارب تقدم للأسرة باسم محمد يوسف أحمد وأنه خريج حقوق (تخرج من الكلية عام 1965 متأخرا 17 عاما) وأنه مدير بشركة أفلام النور وهي شركة غربية للأفلام السينمائية زاره الأب هناك أخلوا له المكتب ومثل دور المدير تم الزواج بعد أن التف صلاح جاهين وسيد مكاوي حول الأب والمأذون معا ليمررا زواجا بلا بطاقة شخصية لكن الأب المتشكك سأل في كلية الحقوق ولم يجد خريجا باسم محمد يوسف أحمد وهدد بإبلاغ البوليس فحكوا له الحكاية كاملة ورضي الأب ثم تأتي عاصفة يناير 1959 حيث قبض علي مئات الرفاق هو أفلت وأخفاه فاروق ثابت في منزل المخرج توفيق صالح ليواصل العمل لتجميع الرفاق ويقبض عليه في مايو 1959 ويقدم للمحاكمة أمام المجلس العسكري العالي برئاسة الفريق هلال عبدالله هلال قائد سلاح المدفعية ويترافع عنه صديق الطفولة د. جمال العطيفي وينتزع له حكما بالبراءة ومن سجن الإسكندرية يرحل مع المتهمين بعد انتهاء المحاكمة إلي ليمان أبو زعبل حيث حفل الاستقبال الوحشي الذي استشهد أثناءه شهدي عطية ومن هناك إلي سجن الواحات حيث بقي معتقلا ليفرج عنه مع الجميع في 1964.
قضي الفترة من 1948 إلي 1964 إما هاربا أو سجينا وأخيرا عاد إلي حياة الإنسان العادي ويعيش مع الزوجة والابن يوسف الذي ولد وهو في السجن وبمائة جنيه أسس مكتب يوليو للترجمة والنشر ثم تغير اسمه إلي دار الثقافة الجديدة ليسعي جاهدا من أجل نشر الثقافة الماركسية والتقدمية توظف في وكالة أنباء الشرق الأوسط وفي 1969 سافر إلي موسكو ليعمل مترجما في دار التقدم حيث ترجم عشرات الكتب الماركسية ومن هناك عمل مراسلا لجريدة الأخبار ومن موسكو إلي هلسنكي ليعمل سكرتيرا في مجلس السلام العالمي ثم إلي براغ ممثلا للحزب في مجلة "السلم والاشتراكية" ثم يعود إلي القاهرة عام 1977 لينشط وبحماس في حزب التجمع.
كان قد أرسل طلب انضمام منذ اليوم الأول لتأسيس منبر اليسار .. ويبقي مناضلا حتي آخر نسمات الحياة .

مواضيع ذات صله: