السجون



فى كل مكان تندلع الحركات الثورية 
هل أدى إحلال السجون محل العقاب البدنى إلى حل مشكلة القمع العقابى ؟
ليس السجن مؤسسة جديدة إذ أنه كان موجودا فى الحضارات القديمة ويرتبط تاريخ السجون إرتباطا وثيقا بتطور إجراءات العقاب وبجذوره الإجتماعية والسجن لا يوجد إلا مع الحضارة أى مع التنظيم الإجتماعى وتأكيد السلطة الحاكمة التى تتولى وحدها الإختصاص فى مجال القضاء وهنا تحل العدالة الإجتماعية محل الثأر الفردى .
كانت السجون موجودة فى بلاد ما بين النهرين حوالى عام 2000 ق . م أى أن المجتمع بدأ منذ ما يقرب من أربعة آلاف سنه فى حبس الخارجين على قوانينه ويبدو أن السجن هو من أهم العلامات التى تميز الحضارة ففى النصوص البابلية وردت إصطلاحات عديدة للتعبير عن مدلول الحبس وتسمح الفقرات القصيرة التى تحدثت عنه بأن نستنتج وجود منشآت فعلية مخصصة للحبس وفى مجموعة قوانين "حمورابى" التى أكتشفت فى عام 1901 ورد ذكر التنظيم القضائى لحضارة دجله والفرات وكان الإختصاص فى مسائل العقوبات يوكل إلى قضاه علمانيين كانوا من موظفى الملك غير أنه لا توجد بها سوى دلائل قليلة على نظام الحبس ومع ذلك فإن وجود السجون حقيقة لا يمكن إنكارها إذ أن هناك نصوصا آخرى تشير إلى الزنزانة وإيداع السجن مغلول اليدين والقدمين وفى أوروك فى القرن السادس ق . م كان يوجد مبنى يتسع لقرابة مائتى معتقل .
  • مصر (البيروقراطية التفكيرية) 
كان النظام المصرى يختلف قليلا عن مثليه فى بلاد ما بين النهرين فكان لكل من المدن الرئيسية سجنها الخاص وكان أشهرها هو سجن طيبة الكبير وطيبة أو مدينة المائة باب كانت عاصمة مصر القديمة وترجع أولى الوثائق الخاصة بهذه المنشأه إلى عصر الدولة الوسطى وإن كان من المؤكد أن الدولة القديمة قد عرفت إستخدام السجون ويرجع الفضل فى معرفة النظم العقابية فى ذلك العصر إلى ورقة من البردى وهى ترجع إلى الدولة الوسطى إكتشفها عالم الآثار المصرية الأمريكى "هايس" وأبرز العناصر دلالة هو وجود إدارة متكاملة بالغة التسلسل تشمل الحراس والمجموعة الإدارية وكتبة السجن ومنهم كاتب أول السجن وكاتب السجن الكبير وهما كبار الموظفين وأكثر الظواهر بروزا فى كل الحضارات القديمة هو الإلتباس فى التفرقة بين مكان إصدار الحكم (المحكمة) ومكان الإعتقال (السجن) والواقع أن المسجونين كانوا ينتظرون إما المحاكمة فى نفس المكان وإما تنفيذ الحكم وكان إصدار الحكم مقصورا على الكهنة فهم وحدهم الذين كانوا يختصون بالنطق بالأحكام أما فيما يختص بالعقوبات فكانت تشمل الإعدام أو التشويه أو غيرهما كالغرامات والأشغال الشاقة والسخرة أما السجن فلم يرد له ذكر ولم يكن سوى إجراء وقائى قبل المحاكمة أو تنفيذ الحكم .
  • الصين (قمع فعال) 
كان الوضع فى الصين مشابها للوضع فى مصر القديمة إذ أنه لم يرد ذكر السجن فى أى من قوانين العقوبات الصينية غير أنه مما لا شك فيه أن السجون كانت موجودة وفى كتابه عن القانون الصينى يندد "ج . إسكارا" بالحالة الفظيعة التى كانت عليها السجون من قذارة وإختلاط وأفتقار للشروط الصحية ونقص فى الغذاء وسوء المعاملة فضلا عن ذلك كان المسجونون يجبرون على العمل وكتاب "المؤسسات" فى عهد أسرة تشاو الملكية (القرن الثامن والثالث ق . م) يشير إلى التمييز بين المسجونين فيقول إن مسجونى الدرجة الثالثة كانت الأغلال توضع فى أعناقهم ومسجونى الدرجة الثانية تغل أعناقهم وأرجلهم ومسجونى الدرجة الأولى تغل أعناقهم وأرجلهم وأيديهم ومهما يكن من أمر فإن مفهوم العدالة فى الصين يختلف كثيرا عنه فى حضارات حوض البحر المتوسط فإن العدالة كانت تتخذ طابع العلاج الأخير للمنازعات الشخصية والواقع أن وجود رجال قضاء طوال فترة التاريخ القديم للصين وكانت مهمتهم تتلخص أساسا لا فى وضع نظام متماسك من القواعد والنصوص ولكنها كانت تهتم وبصفة خاصة بوضع سلسلة من الإجراءات الفورية لتضمن قمعا فعالا وكانت العقوبات تنصب على حالات محددة تشمل أكثر المخالفات شيوعا مثل إنتهاك الحرمات والسرقة والجرائم وكان بوجد نظامان لإرساء العدالة الأولى العدالة الإجتماعية وهى لم تكن مألوفة كثيرا والثانية العدالة الفردية وهذه تقرب من الثأر الشخصى قديما وهكذا نجد أن العقاب فى الحضارات السابقة على ظهور المسيحية كان واقفا على العقوبات الجسمانية وأحيانا على العقوبات المالية وذلك لأن الجسم والمال كانا يعتبران الثروة الوحيدة للإنسان وعلى ذلك فإن العقاب لم يكن يعتبر فعالا إلا إذا مسهما أما العقيدة الثورية فكانت بعيدة وهى التى تعتبر الحرية أثمن ما يمتلكه الإنسان ولذلك فإن الحرمان منها بالسجن يمثل أقصى العقوبات .
  • القانون الرومانى 
يقدم لنا القانون الرومانى مثلا على تطور هام فى مجال العقوبات ففى روما كان السجن العام الكبير هو "التوليانوم" ولكنه كان مخصصا للذين لا يحملون صفة المواطن الرومانى ولذلك فإنه كان سجنا إستثنائيا أما المواطن الرومانى فكان تعريفه ينص على أنه رجل حر ولذلك كان حرمانه من صفة المواطن بمثابة السجن ولحرمانه من هذه الحرية كان لابد من إتخاذ إجراء قضائى صورى على شكل رمزى فكان المتهم يعتبر خارجا إسما عن نطاق المدينة وتمنع عنه المياه والنار وبذلك يكون قد فقد صفته كمواطن وعندئذ يصبح بالإمكان إيداعه السجن أما فيما يختص بغير المواطنين (ليس فقط العبيد ولكن أيضا سكان المحافظات الإيطالية والأجانب) فكان حرمانهم من الحرية أسهل تطبيقا وكان هذا الحرمان يتخذ ثلاثة أشكال أعمال السخرة فى المناجم وفى السجون والعمل لفترة فى الطواحين أو فى الحمامات الساخنة وأخيرا الحكم عليه بالعمل كمصارع .
والسجون كما وصفها "أولبيان" أحد رجال القانون فى القرن الثالث تستخدم فقط لإعتقال الرجال لا لعقابهم وكان التطور فى قانون العقوبات يميل إلى تعميم العقوبات بحيث تطبق على كافة الطبقات الإجتماعية ولذلك فإن الإستجواب مع التعذيب الذى كان مقصورا على العبيد وحدهم إمتد ليشمل الجميع وبصفة خاصة طبقة الفلاحين وهى التى كانت أكثر تمثيلا للشعب الرومانى .
  • العصور الوسطى والتعاليم المسيحية 
كان تأثير التعاليم المسيحية فى هذا المجال عظيما فقد سعت لأن تستبدل بالمبدأ القديم القاضى وبإستبعاد المذنب بإصلاح المذنبولذلك نجد أنه إبتداء من القرن الرابع أقيم السجن فى أحد الأديرة القديمة فى سيناء .
كان العزل يساعد المذنب على التكفير عن ذنبه ومن جهه آخرى قضت هذه التعاليم بألا ترتبط العقوبة بتبعية المذنب لطبقة إجتماعية معينه بل يجب أن تستند إلى المساواه بين الناس غير أن هذه التعاليم الإنسانية لم تلق إلا تطبيقا محدودا فى العصور الوسطى فى أوروبا الغربية فالسجن أصبح عقابا كاملا فى حد ذاته ولكنه لم يكن سوى أحد أشكال العقاب المتعددة فالقصاص والتعذيب ظلا قائمين ومن الجدير بنا أن نقرن أثر التعاليم المسيحية بالأثر الذى أضافه الإسلام وهو دين تحررى كان منتشرا فى أسبانيا فى العصور الوسطى وفى أشبيلية المسلمة فى القرن 12 كانت القوانين تتسم بإنسانية بالغة ففى مناسبات الأعياد الدينية وهة متعددة على مدار السنة كانوا يفرجون عن جميع المسجونين ومن جهه آخرى كان محظورا إساءة معاملة المسجونين وفى سجون النساء كان يجب أن يكون السجان رجلا كبير السن ذا أخلاق حميدة متزوجا ورب أسرة وإذا أقدم على إساءة معاملة سجيناته جرى التحقيق معه وأخيرا فإنه لم يكن يسمح لأى موظف فى الدولة بأن يعتقل أحدا من أفراد أسرته امرأه أو طفلا دون أن يحصل مسبقا على موافقة القاضى ورئيس الحكومة وقد إمتد هذا الإجراء الوقائى ليشمل جميع الأفراد .
وتتسم الشريعة الإسلامية بكفالة تحقيق العدالة دون تفرقه بين فرد وآخر إذ الكل أمامها سواسية والتشريع الجنائى فى الإسلام يعد مصدرا من مصادر قانون العقوبات فى كل البلاد التى تدين بالإسلام وفى عالم العصور الوسطى وحتى القرن 18 يبدو أن الميل التحررى للعقائد الدينية لم يتبعه سوى تطبيقات عملية قليلة وهكذا يقدم لنا أخصائى القانون الجنائى "جوس" فى عام 1771 تعديدا للعقوبات فيقول "الحبس والتعذيب بالدولاب والشنق وفصل الرأس والجر فوق منصه والسجن لمده محدوده أو مؤبده والنفى لمده محدوده أو مؤبده وقطع اليد وقطع اللسان أو حرقه بالحديد الساخن والضرب بالسياط والتنديد والإعتذار العلنى وعمود التشهير وغل العنق والأشغال الشاقة لمده محدوده أو مؤبده والتأنيب والتحذير" أما التعذيب القانونى والإستجواب التمهيدى فلم يتم إلغاؤهما فى فرنسا إلا فى عامى 1780 و1788 .
  • نهاية التقاليد القديمة 
يتميز القرن 18 بحركة ثورية عامة ضد نظام القمع وصلته بالقديم وقد بدأت الحركة فى الولايات المتحده الأمريكية عندما قامت ولاية بنسلفانيا قبل غيرها من الولايات وبعد الإستقلال بقليل بإنشاء سجن ليحل محل العقوبات البدنية وفى فرنسا ندد الفلاسفة أمثال فولتير ومونتيسكيو وجان جاك روسو بأعمال القسوة والإستبداد فى العقوبات وعبروا عن تذمر الشعب بأكمله وقد عبر لويس 16 بنفسه عن رغبته فى الإصلاح عندما أفتتحت الجمعية العامة فى عام 1789 وقد تجلى التذمر العام فى الأيام الأولى من الثورة الفرنسية التى بدأت فى 14 يوليو 1789 بمحاصرة والإستيلاء على الباستيل الذى كان تدميره من أكثر الأحداث دلاله وكان فولتير قد زج به فى ذلك الحصن مرتين ودامت الأولى 11 شهرا فى عام 1717 والثانية فى عام 1726 وكان من أهم ما يشغل بال الثوار هو إقرار الهدف من السجن كإجراء أساسى للعقاب وإن لم يكن إستخدامهم له بأكثر إعتدالا مما كان عليه فى عهد النظام القديم وكان التحسين الذى أدخلته الثورة فى مجال العقوبات تحسينا قطعيا ويحدد بداية مرحلة نحو المفاهيم الحديثة للعقوبات فأختفى التعذيب البدنى (فيما عدا عقوبة الإعدام) وحددت عقوبات لكل جريمة مما قضى على إحتمال التعسف .
وقد إستمرت هذه الحركة خلال القرن 19 إذ كان القمع الجزئى خاضعا للمحاولات الخاصة بالإصلاح عن طريق العمل والتربية الدينية وقد سبق أن طالب جون هوارد فى كتابه عن "حالة السجون" فى عام 1777 بتطبيق هذا الحل ثم كان إنتقال الأشغال الشاقة إلى أماكن جديدة خارج العاصمة الفرنسية يهدف إلى تطبيق شعار "إصلاح الإنسان بالأرض وإصلاح الأرض بالإنسان" وذلك فى مستعمرات العمل الجديدة بيد أن تلك التجربة كانت مخيبه للآمال وأنتهت بإنشاء سجون التجربة للأشغال الشاقة مثل سجن كايين حيث لم يكن النظام الذين يسيرون عليه أكثر تحررا مما كان فى سجون العهد القديم (ومما يذكر أن فرنسا لم تلغى سجون الأشغال الشاقة إلا فى عام 1960) وبالرغم من هذه المحاولات فقد كانت الفكرة الغالبة هى إرادة التخويف إلى أن كان ما بعد الحرب العالمية الثانية حين ظهرت النظريات الحديثة فى مجال طرق القمع .
كان ذلك على شكل حركة دولية أدت إلى إنشاء "المجلس الدولى للعقوبات والإصلاح" أو "الجمعية الدولية لقانون العقوبات" وقد جرت أولى التطبيقات العملية فى بلاد أوروبا الشمالية التى كانت أول من سمح للمسجونين بالعمل فى الخارج وبدا ذلك أقدر الوسائل لتحقيق إستمرار تبعية المسجونين للمجتمع وتجرى محاولة آخرى لإكساب العقوبات الطابع الشخصى بمنح القاضى فرصة الإختيار بين العديد من العقوبات التى يستطيع أن يقضى بها على المذنب .
هذا ولتجنب إختلاط صغار السن بالكبار داخل السجون أنشئت لهم مراكز خاصة يحظون فيها بحرية جزئية وبصفه خاصة فى الولايات المتحدة وأخيرا فإن عقوبة الإعدام قد ألغيت فى كثير من دول أوروبا وعلى ذلك فإن العدالة لم تعد أداه للإنتقام أو رد فعل إجتماعى بل أصبحت تهدف إلى التوعية العامة لتلافى وقوع الجريمة ومع ذلك فإن أحداثا وقعت أخيرا فى الولايات المتحدة وفرنسا بصفة خاصة أظهرت رسوخ مشكلة السجون وفشل المحاولات لحلها .