محمد خليل قاسم



"قل رأيك وحارب الخطأ بقسوة حتى ولو غضب منك الجميع فأى مناضل هذا الذى لا يستطيع ان يواجه العالم كله برأيه؟" .. محمد خليل قاسم




أنا مصري وفي مصريتي
ينطوي أمسي وينساب غدي
أنا مصري وفي مصريتي
نبع أحلامي ومثوي جسدي

أي خيط سحري يربط اثنين كي يصبحا اصدقاء ؟ 

أقصد اصدقاء صداقة حقيقية فمن بين المئات والألوف يلتقيان يتقاربان يتآلفان ليصبحا أقرب وأوثق علاقة .. لو اكتشفنا هذا الخيط السحري لأمكننا أن نكتشف لغز الحب أقول هذا لأن حالتي مع محمد خليل منذ اللحظة الاولى للقائنا صدر في قلب كل منا قرار سحري بأن نصبح أصدقاء .
الأب تاجر صغير فقير في بلدة "قتة" النوبية زبائنه نساء وأطفال هاجر رجالهم شمالا إلي القاهرة ليعملوا هناك بوابين وخدما لا نقود في القرية وربما وجدت أسر لم ترى النقود في حياتها هناك النخيل بلح يصبح تمراً يقدمون أكوام التمر للتاجر ليبيعها في أسوان ويحصل علي ثمن ما اشتروه طوال العام وكالعادة يتعلق حلم الأسرة بأن يتعلم محمد ويصبح أفنديا ومن المدرسة الإلزامية إلي مدرسة عتيبه الابتدائية حيث تفوق علي الجميع وتفوق أكثر فيما كان ينسجه من شعر جذل .
وأمضي فى حواراتي معه "ظللت في النوبة لم أغادرها قط حتي تحتم أن أسافر إلي أسوان لامتحن الشهادة الابتدائية هناك في أسوان عشت منبهراً رأيت أشياء كنت فقط أري صورها في كتاب المطالعة ويحصل علي الابتدائية متفوقا ولكي يواصل تعليمه يجب أن يرحل إلي القاهرة وبالطبع إلي منزل خاله (كان طباخا لدي أسرة كابتن هون صاحب اسطبل لخيول السباق بالمطرية) ذهب ليقدم أوراقه إلي ناظر مدرسة القبة الثانوية أمسك الناظر بالأوراق وألقي نظرة فاحصة علي الفتي الذي يقطر فقرا ملابسه قديمة ولعلها ليست علي مقاسه وحذاؤه قديم إلي درجة مخجلة ولعل الفتي لمح بذكاء تردد حضرة الناظرة في قبوله فارتجل عدة أبيات من شعره وأدرك الناظر أنه أمام شاعر حقيقي ويمضي سنوات الثانوية سريعا ومتفوقا وإلي كلية الحقوق وهناك انطلق إلي العالم الرحب التقي صديق الطفولة زكي مراد وتعرفا علي عبده دهب وانضما إلي منظمة الحركة المصرية للتحرر الوطني وفي هذا الزمان التقي الفتاة التي أحبها وظل طوال حياته يحبها ويحكي لي "التقيت بها في مترو مصرالجديدة الحب غمرنا سريعا وكثيفا عشنا أجمل أيام ولكي لا أخدعها أخذتها من يدها إلي جروبي مصر الجديدة وأقبل السفرجية يسلمون علي قلت لها هؤلاء أقاربي نحن نوبيون أي نحن فقراء لم تنطق وسحبتني من يدي إلي أحد شوارع مصر الجديدة حيث محل لمسح الأحذية وأشارت لاثنين منهمكين في مسح أحذية الزبائن وقالت هذا أبي وهذا عمي وتعمق حبنا أكثر فأكثر" .
ويقول في أسي وأكاد ألمح الدموع في عينيه "الزمن والنضال والسجن والمطاردة والهروب فرقت بيننا لكنني لم أزل أحلم بها كل ليلة" وكان له حبه الآخر .. الشعر "كان طموحي أن أصبح شاعرا كبيرا وقرأت وحفظت وكتبت وترددت علي أندية شعرية لألقي فيها قصائدي وأتلقي اعجابا حقيقيا" ويصمت ثم يضيف "أن تكون شيوعيا تصبح كراهب تترك كل قديمك كل شيء الأسرة والدراسة والكلية وكل هواية .. وكل شيء إلا معتقدك الذي تهب له كل شيء" ومع ذلك فقد ظل يقطر شعرا يشدو به في لحظات المتعة وينشر في مجلة "أم درمان" قصائد عدة منها ...
نحن نبني لأن فينا جياعا
يعمرون الكهوف بين الجبال
نحن نبني لأن فينا عراة
يخدمون الثراة في أسمال
نحن نبني لأن فينا رضيعا
قارب الموت مستبد السعال
نحن نبني وما بني الشعب باق
أبد الدهر ساخرا بالزوال
ويمضي نضاله اليومي الذي ينسيه كل شيء ليصبح واحدا من أهم كوادر المنظمة وفي عام 1948 قبض عليه وحوكم بالسجن خمس سنوات ويفرج عنه في 1953 حيث تكون الأزمة قد اشتعلت بين حدتو وثورة 1952 فيختفي ليواصل النضال من جديد واختفي في بيت واحد مع زكي مراد ومحمد شطا ويخرج هو من المخبأ ليأتي إلي بيتي.
ابلغني أحد الزملاء أن علي أن اذهب إلي مقابلة أحد الرفاق القياديين وذهبت في موعد مسائي شديد البرودة وتوقفت سيارة قديمة مطفأة الأنوار كان المطر ينهمر فوق رأسي ورأيت شبحا يهبط من السيارة شخص مربع متجهم اسمر شفتاه نافرتان وكأنهما رسمتا بشكل خطأ وتركوني معه ووجدت نفسي في قبضة القادم الجديد المطر يغمرنا وهو يضع تحت ابطه لفافة من ورق الجرائد أشرت إلي تاكسي فإذا به يلدغني في يدي هامسا "من أيام ح.م تعلمنا ألا نشير إلي أول تاكسي فقد يكون الأمن قد ارسله لنا" وانتظرت بملل والبلل يغمرني وهو ثابت مكانه كصخرة أسوانية راسخة وعينه تتفحصني من حين لآخر ثم أشار لتاكسي وذهبنا إلي منزلي فتح اللفافة واخرج منها بيجامة بنصف كم ومهلهلة في صمت فتحت دولابي واحضرت بيجامة كستور واشعلت المدفأة وعندما شعر بالدفء ابتسم وقال مش حنحتفل؟ كل سنة وأنت طيب النهاردة 7 نوفمبر عيد الثورة الروسية وحضر محمود العطار زميلي في السكن واحضر لنا طعاما وصل من المنصورة وأخرجت كيسا من التفاح وصلني من هناك امسك بتفاحة وقال تتصور أنها أول مرة أمسك تفاحة والتهمها وفيما نتمدد أنا وهو علي سريري واللحاف الثقيل يثقل علينا بالدفء الحقيقي تذكرت قصيدة لمحمد خليل قاسم حفظتها وأنا فتي صغير السن في معتقل الهايكستب لم أره هناك، هو رحل إلي الطور وترك قصائدة في ذاكرة الرفاق وانشدت بيتين من قصيدة قالها في احتفال المعتقلين بذات الذكري .
وإذ نحتفل اليوم به .. ها هنا بين هاتيك الصحاري
فغدا يحتفل الشعب به .. في النوادي في النقابات جهارا
وسألني عن القصيدة ؟ 
قلت لمحمد خليل قاسم 
وسأل هل تعرفه ؟ 
قلت: لا
فقال أنا 
تعانقنا وأمضينا ليلة احتفالية جميلة لنبدأ معا رحلة صداقة طويلة ممتعة 
ومنذ اللحظة الأولي لسكناه معي هاربا من الأمن بدأ جلسات حوار ونقد شديد لأسلوبنا في العمل عندما عملنا وحدنا زمنا نعارض "الديكتاتورية العسكرية" بعيدا عن إشراف قيادة لا نجد سبيلا للاتصال بها كان نضالنا يتلخص آنذاك في الكتابة علي الجدران وكان الأمر يتطلب حذرا وشجاعة لكنه دقق في الشعارات المكتوبة ووجد أخطاء وشدد في انتقادها وفحص أساليب تحركنا وكيفية تأمين عملية الكتابة وانتقدها بعنف وبدوت وأنا الذي كنت أزهو بأنني مسئول كل هؤلاء المناضلين الشبان كأنني تلميذ في محراب شديد القسوة احتملت النقد فقد أحببت في الرجل إخلاصه وصراحته وصرامته واحتفظت لنفسي سرا بالحق في نقده إن أخطأ .. وبعد أن تفرقت بنا السبل هو غادرنا إلي منزل آخر ثم قبض عليه ليرسل إلي السجن الحربي وأنا قبض علي لأذهب إلي سجن مصر التقينا وكان "بيان السجن الحربي" وهو بيان أصدره رفاقنا القادة السجناء يحيون فيه تقارب جمال عبدالناصر مع الاتحاد السوفيتي وقام كل السجناء في سجن مصر بهجوم كاسح علي القادة الذين أصدروا البيان وتعالت الاتهامات بالخيانة أنا رفضت البيان ورفضت التخوين وجلست إليه قلت لدي انتقادات شديدة وأتردد في قولها فهاج محرضا إياي أن أواجه العالم كله بما أعتقد أنه صائب .. وهكذا تعلمت منه درسا ثمينا وتتفرق السبل مرة أخري هو إلي سجن طرة وأنا إلي سجن القناطر لكننا وإذ نلتقي نجد صداقتنا وقد نمت أكثر وأكثر ..  وإذ استقر بنا المقام في سجن "جناح" تتلمذت تماما علي يديه أمرني أن أتعلم الإنجليزية وبذلت جهدا خارقا وأمرني أن أخوض غمار الترجمة وأعطاني مقالا من صفحتين ووجد في الترجمة أكثر من مائة غلطة وأمر بإعادة الترجمة وأعدتها ثم أعدتها ثم بدأت الترجمة تستقيم بقليل من الأخطاء وأمرني أن أحفظ الشعر وحفظت وأمرني أن أجرب كتابة التحليل السياسي وفعلت باختصار كان يقوم بصناعتي وفي هذه الأثناء صدر قرار بفصل كل السجانين الذين لا يتعلمون القراءة والكتابة إما الحصول علي شهادة محو الأمية أو الفصل السجانون كانوا في الأغلب متوحشين وعند الأوامر يضربون بقسوة وكأنها خصومة شخصية وأكثرهم عذبنا في سجن القناطر و أبوزغبل وطرة ولهذا ارتفعت نغمة وسطنا بألا نعلمهم نتركهم للفصل فهم أعداء طبقيون هو لقنني درسا آخر .. هم مساكين مقهورون مثلنا وما أسهل أن نكسبهم إلي صفنا وافتتح فصلا وفصلا ثانيا والسجانون يأتون لفترة ويرحلون وكل من يرحل يكون قد تعلم .. وأسماه السجانون "حضرة الناظر" وظل هذا اسمه حتي أفرج عنا والمثير للدهشة أن مصلحة السجون اعترفت بمدرسة حضرة الناظر وبالشهادة التي يوقعها كشهادة رسمية لمحو الأمية ونفترق لنلتقي مرة ثانية في سجن المحاريق هو أصبح قائدا ناضجا تماما وأنا تعلمت كثيرا من دروسه الجادة والقاسية كان العمر يتقدم بي وبه وأحسسنا بأن العمر يتسرب من بين أيدينا وبدأنا فصول تقوية مكثفة كل منا يستحث الآخر قرأنا دواوين شعر عديدة حفظنا قصائد بلا حصر قرأنا القرآن عديدا من المرات ثم سألته لماذا لا تكتب مذكراتك ؟ وتناقشنا في لماذا ؟ وكيف ؟ ومتي ؟ واستقر الأمر علي أن يسجل تاريخ النوبة في رواية وبدأ في كتابة "الشمندورة" والمشكلة لا أوراق فالكراسات شحيحة وبدأ الكتابة علي ورق شكاير اللبن الجاف، وهي شكاير تشبه شكاير الأسمنت وفصلا فصلا أقوم أنا بنسخها علي ورق البافرة بخط دقيق جدا وفيما هو يكتب كلفني بترجمة كتاب "أضواء علي الهند الصينية" ثم هو يراجع الترجمة فصلا فصلا وأنا أكتب له علي البافرة فصلا فصلا وعندما انتهيت من ترجمة أضواء علي الهند الصينية قال مكشرا عن أنيابه ترجمت كتابا سياسيا لكن الترجمة الحقيقية هي ترجمة الأدب وأحضر لي رواية "الأرض" لإميل زولا وانهمكت فيها وانهمك هو في "الشمندورة" وفي مراجعة الترجمة وانتهت كتابة "الشمندورة" وبدأت مشكلة كيف ؟ وأين ؟ كيف نهربها خارج السجن ؟ وأين تحفظ وتم تهريبها إلي ليلي الشال "ولم نكن قد تزوجنا بعد" وهو يعيش حالة قلق دائم فماذا لو أنها ضاعت ؟ وأطمئنه وأعيد طمأنته وهو لا يطمئن حتي أفرج عنا وسلمت لفافات البافرة له لكن نظره الضعيف لم يلتقط الأحرف الصغيرة فكتبتها له في كراسات وصدرت "الشمندورة" لتحدث ضجيجا وتذاع مسلسلا في اذاعة صوت العرب وتزهو بها كل الأندية النوبية في ندوات لا تنتهي أما هو فقد خرج من زنزانة السجن الضيقة إلي غرفة أصغر معلقة فوق سطح في تجمع نوبي بالقرب من سوق الجمال في إمبابة زرته هناك عندما قرر أن يتزوج قدمت له هدية لم أجد لها مكانا توضع فيه الغرفة لم تحتمل المروحة التي حملتها معي أخته فرحت جدا بها أما هو فقد اكتفي بابتسامة سرير وحصيرة ووابورجاز وفقط وحمام مشترك وعندما صدر قرار الحل زارني ارتمي في أحضاني باكيا قائلا لم أبكى عندما مات أبي ولا عندما سمعت بموت أمي أما أن يموت الحزب فأنا يتيم حقا وفيما يقترب يوم زواجه قرر القلب الجميل أن يتوقف اخته احتارت جارتهم أحضرت بصلة كسرتها ووضعتها قرب أنفه لم يعد يتنفس .. فالفقراء يموتون غدرا ودون علاج .

مواضيع ذات صله:

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق