زكى مراد





شهيد الطبقة العاملة ورمز الجبهة الوطنية




"الفارق بيننا في الحركة المصرية للتحرر الوطني وبين رفاق "ايسكرا" أننا كنا نناقش أي موضوع سريعا ونصل إلي قرار ثم نبدأ في العمل أما رفاق ايسكرا فكانوا يستمتعون بالنقاش يتكلمون جميعا وطويلا جدا ويستهلكون جلسة أو اثنتين أو أكثر دون أن نصل إلي اتفاق" (في حوار اجراه معه الدكتور رفعت السعيد في 25/11/1974) .
تحدثنا عن نوبيين فقراء كل النوبيين كانوا فقراء وعمدة الفقراء هو أيضا فقير سموه زكي العمدة لأن والده كان عمدة أبريم والعمدة في القرية النوبية هو محور الحياة فالرجال يسعون شمالا نحو الرزق ليعملوا في القاهرة بوابين أو سفرجية ويبقي العمدة لينظم حياة كل سكان القرية من نساء وأطفال وعجائز هو البديل عن جميع الغائبين والمنصب المهيب يضفي ظلاله علي جميع افراد الأسرة الأب هو محمد العمدة والأم فاطمة العمدة والابنان فوزي العمدة وزكي العمدة .
هكذا كان الأمر والأطفال يلعبون معا في حواري "أبريم" أو بين تلاميذ مدرسة عنيبة الابتدائية والنوبيون مكتوب عليهم أن يبنوا بيوتهم ويزرعوا نخيلهم ثم يتركوا كل شيء كي يغرق هكذا يدفعون ضريبة الوطن يدفعونها رغم أن الحكومات المتتالية أنكرت تضحياتهم ولم تترك لهم سوي العمل بوابين وسفرجية غرقت بيوتهم ونخيلهم والتعويض هزيل .. هزيل يقول زكي بحماس "تصور تعويض النخلة المثمرة كان 15 مليما وعندما قال أحد أعضاء مجلس الشيوخ حرام هذا تعويض هزيل رد عليه إسماعيل صدقي "إذا اغتنوا مين حيشتغل عندنا بوابين وخدامين" بمثل هذا الاستخفاف الطبقي المرير حمل النوبيون ما تبقي من حطامهم وانتقلوا .. ويشدو زكي مراد حزينا ..
لنفترق
لنفترق يا بيت والدي العزيز
يا قمرة الصبا
يا سكرة الحياة في ربيعها المبكر الطليق
يا لمحة الطفولة الجميلة البريق
لنفترق
يا نيل يا نخيل يا أصيل
قريتي الوردي الجميل
يا قلعي الصغير يا فلوكتي
يا شمعة تضيء في جزيرتي
وفي عام 1939 يحصل زكي علي الابتدائية ويرحل شمالا يركب القطار للمرة الأولي في حياته ويلتحق بمدرسة حلوان الثانوية ولمدرسة حلوان قصة في تاريخ اليسار فهي المدرسة الأميرية الوحيدة بالقاهرة التي تضم قسما داخليا وفيها احتشد طلاب من مختلف الأقطار نوبيون من جنوب مصر ومن شمال السودان وسودانيون شماليون وجنوبيون ويمنيون حضارمة وصوماليون وتونسيون وبين هؤلاء جميعا أنبت اليسار المصري زهورا أينعت في عديد من الأقطار ووسط هؤلاء جميعا عاش زكي مراد وغني أشعارا تمتلئ حنينا للنوبة ومحبة للوطن ويحصل زكي علي الثانوية العامة .. وإلي الجامعة فينتقل إلي غرفة في أعلي سطح منزل متهالك في حي الفوالة حيث يتراكم النوبيون الغرفة ضيقة لكن الفقر يجبره علي مشاركة زميل فيها وكان زميل صباه ودراسته في مدرسة عنيبة الابتدائية محمد خليل قاسم تقاسما الغرفة الضيقة المضاءة بلمبة جاز شحيحة وتقاسما اللقمة وتطارحا الشعر وجلسا معا في أحد المقاهي حيث التقطهما عبده دهب وضمهما معا إلي الحركة المصرية للتحرر الوطني وينشط الاثنان في حماس غامر بين الشباب النوبي في المقاهي وفي الأندية النوبية والنادي النوبي العام .. الذي تحول علي يديهما من مجرد دور للأفراح والتعازي والثرثرة إلي أندية حية تنبض بندوات ومحاضرات وفصول محو أمية وجلسات صاخبة وينهض القسم النوبي في "ح. م" ليصبح أحد أعمدة التنظيم ويتمدد النشاط إلي الطلبة السودانيين ليشمل أسماء لمعت بعد ذلك في سماء السودان عبدالخالق محجوب وعبدالماجد أبوحسبو ومحمد أمين شاكر مرسال والتيجاني الطيب وعشرات غيرهم كانوا عماد الحركة السودانية للتحرر الوطني "الحزب الشيوعي السوداني" .
ويسهم زكي في تأسيس مجلة أم درمان "مجلة الكفاح المشترك" ويكون له ولزملائه فضل واجهة الشعار السائد آنذاك نيل واحد - شعب واحد - ملك واحد وتبني شعار الكفاح المشترك ضد الاستعمار وحق تقرير المصير للشعب السوداني وعلي صفحات "أم درمان" يشدو زكي مراد شعرا ..
بيني وبينكم الدم
فتحكموا
ما شئتموا
إني غدا متحكم
وتغلق أم درمان ضمن حملة الطاغية صدقي يوليو 1946 فيقول "ولأنني عشت محنة الانقسامية فإنني أخوض دوما معركة الوحدة بين كل القوي الوطنية والثورية"
كانت مصر تغلي وكان يغلي معها شوقا للحرية والتحرر، وكان يغلي مع النوبيين سخطا علي هذه الطبقة التي جردتهم من كل شيء الأرض والنهر والنخيل والأمل لكنه أبدا لم يفقد بوصلة النضال ويروي في حواري معه «ذات يوم جاء محمد نورالدين وكان سياسياً نوبياً سودانياً يعلن تعلقه بمصر وبأعتاب القصر الملكي وبدأنا حوارا علي مقهي بالفوالة، وهمس بالنوبية لماذا لا نعمل معا وسرا من أجل الانفصال عن مصر وعن السودان ونؤسس دولة نوبية» كان زكي ومحمد خليل قاسم ينصتان في قرف وانتفضنا معا ضده وتوسل لهما ألا يفشيا سره ووعداه بذلك فإن زكي يناضل ضد الإقطاعيين والاستغلاليين والقصر الملكي من أجل حقوق الشعب المصري كله ومن أجل الوطن المصري كله وظل هو ورفاقه النوبيون يتعقبون دعوة الانفصال حتي قضوا عليها تماما.
وفي الجامعة أصبح الفتي ملء السمع والبصر وخاض وبنشاط معركة تأسيس "اللجنة الوطنية للطلبة والعمال" ويتألق ثورية وحماسا وشعرا في المسيرات الحاشدة في 21 فبراير يوم الطالب العالمى و4 مارس (1946) ويعمل زكي بلا كلل في أكثر من اتجاه وسط النوبيين وفي قسم الطلاب وفي قسم الأحياء وفي أنشطة جماهيرية عديدة ويتطلب الأمر أن يقترب بمسكنه من الجامعة فالسير علي قدميه من الفوالة إلي جامعة القاهرة يستغرق زمنا ولا قدرة علي دفع ثمن المواصلات وأتي إلي غرفة معلقة هي أيضا فوق سطح متهالك في المبتديان.
ويتوالي النشاط وتتوالي الضربات الأمنية ويتوالي السجن لكنه يواصل ويحكي في حواره وهو يضحك ضحكته المميزة "كانت الضربات تتلاحق وذات يوم مررت علي محل شحاتة النشار في شارع السد فقال لي والده إن مخبرين حضروا وسألوا عليه وقالوا إنه مطلوب وأدركت أن ثمة حملة قادمة فقررت إبلاغ أعضاء لجنة القسم لتنظيف منازلهم من أي أوراق يمكن ضبطها وصعدت مئات السلالم وأنا أجري من بيت إلي بيت محذرا الرفاق وعندما انتهيت من تحذير الجميع تذكرت أنني نسيت نفسي وأن غرفتي بها أوراق كثيرة فأسرعت لأجدهم في انتظاري وقبضوا علي ومعي أكوام من المضبوطات".
ويصبح زكي وبعد فترة عضواً في اللجنة المركزية لمنظمة حدتو وهي في أوج ازدهارها (1950 - 1953) وتكون سنوات مجد حقيقي حركة أنصار السلام التي هي بذاتها جبهة تضم قوي وطنية تمتد من باشاوات.. إبراهيم باشا رشاد وحفني باشا محمود وفنانين وفنانات ومثقفين وأدباء وشعراء وحزبيين من مختلف الاتجاهات واللجنة التحضيرية لاتحاد نقابات عمال مصر.. والاستعدادات تجري علي قدم وساق لعقد "مؤتمر شعوب الشرق الأوسط" الذي دعت إليه حدتو لتوحيد نضال الشعوب العربية ضد الاستعمار والصهيونية، وفيما يتألق الفعل الثوري المتعدد الجوانب وتتصاعد الدعوة إلي تأسيس جبهة وطنية ديمقراطية .. يفعلها الرجعيون وعملاء الاستعمار والقصر الملكي وتحترق القاهرة، ويقبض عليه ليفرج عنه بعد ثورة 1952 ويكون الزمن الصعب أن نؤيد ثورة الجيش في مواجهة رفض الحركة الشيوعية العالمية وكثيرين من الشيوعيين المصريين وأن تعمل ضدها في آن واحد عندما تنتهك الديمقراطية.. وتفتح المعتقلات والسجون ويهرب زكي مراد ويختبئ في بدروم بيت بالدقي "بجوار فرن الجهاد" وكنا نحن نشتعل حماسا نحن طلاب حدتو ونغرق جدران القاهرة بشعارات ضد الديكتاتورية العسكرية.. وابتعدنا بالطبع عن موقع سكننا في العباسية .. فكتبنا علي جدران البدروم الذي يعيش فيه هاربا هو وخليل قاسم ومحمد شطا وهم استشاطوا غضبا وخوفا من جذب أنظار الأمن لكنه ضج فرحا بالرفاق ينشطون وفي هذه الفترة أعمل زكي كل قدراته من أجل تأسيس "الجبهة الوطنية الديمقراطية" وأقام لها قواعد عدة ويقبض عليه وإلي السجن الحربي وهناك يكتب رثاء لأبيه الذي رحل وهو في السجن..
يا أبي إني أعيش في جحيم مستعر
ليس لي غير كفاحي والصباح المنتظر
كنت أرجو أن تعيش لتراني أنتصر
أنا لم أهدك شيئا في حياتي الماضية
غير أني كنت أنوي في حياتي الآتية
أن تكون الباقة المهداة دنيا ثانية
وطنا حرا سعيدا ونفوسا عالية
ويحاكم أمام محكمة عسكرية والحكم القاسي ثماني سنوات أشغالاً شاقة.. وتمضي فترة السجن ولا يخرج بل يعتقل ليفرج عنه في أبريل 1964، وتمضي أحداث عديدة قرار الحل - النكسة - ويوم النكسة يتقرر إعادة تأسيس الحزب ويخوض المعركة بكامل قواه وبكل تفاؤله الذي يطغي علي كل الصعاب وتتألق مطبوعات "أحمد عرابي المصري" الاسم السري للحزب الجديد ويكون لزكي أكثر من تقرير وأكثر من دراسة كلها تتركز علي الدعوة لوحدة القوي الوطنية والثورية وتشتغل انتفاضة 1977 ويقبض عليه من جديد ويواصل .. يواصل بلا ملل حتى اعلن صيحته المدوية فى ابريل 1979 بأن: "مصر ليست ملكا لماركسى ولا ملكا لوفدى ولا ملكا لناصرى ولا ملكا لاخوانى او ملكا لأحد من الاتجاهات الاسلامية إن مصر هى ملك لجميع المصريين والمصرية هنا ليست مجرد انتماء وانما تتحد بالمواقف فأنت مصرى حقيقى اذا كنت تقف فى خندق اعداء الصهيونية واعداء من هم خلف الصهيونية من قوى الاستعمار العالمى اما اذا كنت فى خندق امريكا واسرائيل فلتبتعد عنا ولتعلم ان الذى بيننا وبينك هو الكفاح والسلاح ولتكن النتيجة ما تكون" منذ هذه الصيحة المجمعة المحددة للخنادق التى اطلقها الحالم الثائر بعد عقد اتفاقية كامب ديفيد بين مصر والكيان الصهيونى تربص به الموت الغادر واعداء الحرية والكرامة  ليستشهد فى 18 ديسمبر 1979 على طريق القاهرة الاسكندرية 

خطاب المناضل الشهيد ضد اتفاقية كامب ديفيد والتطبيع مع الصهاينة



مواضيع ذات صله:

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق