الاوبرا



الأوبرا هى أحد الإنجازات الرائعة ليس فقط فى الفن الإيطالى خلال الفترة الأخيرة من عصر النهضة وإنما كذلك بالنسبة للموسيقى العالمية 




كانت الموسيقى منذ العصور الوسطى تختلط بفنون الإستعراض التراجيدية أو الكوميدية دينية كانت أم إلحادية وكما كان الأمر فى المسرح الإغريقى فإن مجموعات من المرتلين كانت تتحاور حول معجزات ميلاد السيد المسيح وخوارق البعث وكانت رحبة الكاتدرائيات قد تحولت إلى نوع من المسرح الغنائى قبل الرسالة حيث العين تمتلئ بعدد كبير من المشخصين الصامتين الذين أرتدوا ثيابا باذخة ويسيرون فى بطء أمام الديكورات التى تم بناؤها ويجب أن نضيف إلى ذلك أى إلى هذه الخطوة الأولى نحو ما سيكون فيما بعد هو الأوبرا ذلك الرقص الشعبى أو رقص البلاط الممتزج بالألحان وإلقاء الأناشيد والتراتيل والإفتتاحيات بدخول نخبة فى ثياب فاخرة ملونة ولم يحدث إلا فى القرن 17 أن ألتحمت الموسيقى تماما مع النص فأمكن بذلك أن تنشأ الأوبرا .
  • من ميديتشى إلى مونتفيردى 

حدث أيام حكم آل ميديتشى أن أراد أحد النوادى الموسيقية والشعرية أن يعيد إلى الوجود ما يشبه المسرح الإغريقى كرد على الغناء الجماعى الفرنسى الألمانى وفى عام 1594 مثلت فى قصر بيتى تمثيلية "دافنى" وهى فصل موسيقى قصير وضعه بيرى ورينوتشينى ولم تستحق أن يطلق عليها أسم أوبرا وبعد ذلك بثلاثة أعوام ظهرت تمثيلية أثارت الإهتمام هى "البرناسيه المزدوجة" التى وضعها أوراتسيوفيكى وفى أكتوبر 1600 أقتبس بيرى ورينوتشينى عن قصص الأساطير ملحمة أورفيه وزوجته يوريديس وألفا عليها تمثيلية "يوريديس" التى عرضت بمناسبة زواج ماريا دى ميديتشى إبنة غراندوق توسكانيا من ملك فرنسا هنرى الرابع والواقع أن هذا الإنتاج الفنى كان أول أوبرا جديرة بهذا الإسم وكان لابد أن يكون لها صدى مزدوج أولا عام 1602 فى "يوريديس" آخرى وضعها كاتشينى على نفس نمط رينوتشينى ثم ثالثة بإسم "أورفيو" وضعها مونتفيردى عام 1607 .
ولد مونتفيردى فى أسرة من الأطباء بمدينة كريمونا فى شهر مايو 1567 فلما بلغ 20 من عمره صدر له فى البندقية أول كتاب من كتبه التسعة فى الغزليات والتى جعلت أسمه مشهورا فى جميع أرجاء أوروبا وبعد مرور ثلاث سنوات على ذلك دخل فى خدمة مانتوا بوصفه عازفا على إحدى الآلات الموسيقية وكان هذا الدوق أديبا مرهفا فشجع مونتفيردى على أن يؤلف للمسرح وفى مدينة مانتوفا وقع مونتفيردى فى حب مغنية شابه تدعى كلاوديا كاتانيو ولم يلبث أن تزوجها وقد حضر دوق مانتوفا عرض "يوريديس" لبيرى ويحتمل أن يكون مونتفيردى قد حضرها بدوره وعلى ذلك فإن الدوق طلب من سكرتيره أليساندرو ستريجيو أن يضع له نصا شعريا ثم كلف مونتفيردى بأن يلحنه بالموسيقى على الفور ومع أن تلحين "أورفيو" لم يستغرق إلا وقتا قصيرا فإن سنوات طويلة مضت فى إعداد المغنين الذين يستطيعون القيام بتأدية الأسلوب الغنائى الجديد الذى يتخلله إلقاء عبارات درامية تتباين مع الغناء ولها طابع جاد وفى ربيع عام 1607 أقيمت عدة عروض لتمثيلية "أورفيو" فى مدينة مانتوفا بنجاح عظيم مما جعلها تعرض كذلك فى مدينة تورينو وفلورنسا وكريمونا .
وفى كريمونا أصيبت كلاديا بمرض خطير وتوفيت يوم 10 سبتمبر وتحت تأثير الألم لوفاتها كتب مونتفيردى "آريانا" التى لم يبقى منها سوى لحن نؤثر واحد بعنوان "رثاء آريانا" وفى عام 1613 عين مونتفيردى أستاذا للموسيقى فى جمهورية البندقية السامية وكانت سلطته فى مجال الموسيقى مطلقة وقد مارس عمله هذا طوال 31 عاما إلى أن توفى فى البندقية عام 1644 ومن الأعمال الغنائية الكثيرة التى أبدعها مونتفيردى لم يبقى منها إلا المقطوعتان الأخيرتان وهما "عودة أوليس" عام 1641 و"تتويج الكاهن" عام 1642 ويدلان على أن هذا الموسيقى العبقرى لم يتوقف عن إدخال الكثير من التحسينات على فنه فى التأليف وعلى أنه تدرج من إكتشاف إلى إبداع سواء فى طرافة الهرمونى أو فى تلوين أداء الآلات وقد تولى عدد من كبار الموسيقيين جمع التراث الفنى لمؤلف "أورفيو" ومن هؤلاء أحد تلاميذه فى مدينة البندقية وهو كافاللى 1602 ـ 1676 الذى كتب عددا كبيرا من الأوبرات وكلها تقريبا ذات موضوعات أسطورية مثل "الثرثار" و"هرقل العاشق" و"ديدرون" و"ثيتيس" و"بيليه" وغيرها كثير إلا أنه أستسلم بعد ذلك لنهم الجمهور المتعصب لسماع أصوات المطربين وقد أكثر فى أعماله من الألحان البراقة فساعد على خلق الغناء الجميل مضحيا فى سبيل ذلك فى أغلب الأحيان بالوحدة الدرامية للحركة لحساب براعة المغنى .
وفى روما وجه الأخوان باربيرينى الأوبرا ناحية الشخصيات الخارقة التى تحظى بجمهور كبير وذلك بأن أدخلا تغييرات متتالية وتغلبت براعة الأسلوب وقل التأثير الأوكسترالى وألغى المنشدون وضحى بالتوليفة الموسيقية المسجلة ولم تعد هناك موضوعات أسطورية وأخذوا يقدمون للجمهور عددا من الحبكات الرومانسية والروايات المعقدة ثم جاء فرنشسكو مانيللى بتمثيليته "المرأة المسلسلة" عام 1637 وحاول أن يحتفظ لأوبرا البندقية بصفات موسيقية أصيلة ولكن أحدا لم يتبعه أو يحاكيه فى ذلك وحاول مارك أنطوان نشستى 1623 ـ 1669 بدوره أن يدافع عن حقوق الموسيقى فى أبراته التى وضعها للبلاط ومنها أوبرا "التفاحة الذهبية" الرائعة وقطع عدد من الملحنين كل صلة لهم بأسلوب الغناء وموسيقى الغرفة مثل جيوفانى ليجرينزى 1626 ـ 1690 ثم قاوموا بقدر ما يستطيعون هذه المحاولة ذات المستوى الهابط .
وفى معاهد الكونسرفاتورا أجتمع الرأى على نشأة نوع من الأوبرا النابولية نسبة إلى مدينة نابولى وكان أهم شخصياتها ألساندرو ستراديلا المولود فى نابولى عام 1645 وقصة حياته رواية مغامرات فقد طعن بالخناجر فى مدينة جنوا عام 1682 على أيدى جماعة من القتلة المأجورين دفعهم إلى ذلك أحد السادة الذى كان ألساندرو قد إنتزع منه عشيقته ويعود إليه الفضل فى وضع عدد من الأوبرات منها "كورسبيرو" و"أوراتزيو كوكليت فوق الجسر" و"ترسبولو" وبيانتى وقوة الحب" وقد نسب إليه وضع لحن كنائسى بعنوان "الرحمة يا سيدى" وهو اللقب الذى جلب له المجد وقد سيطر على كل هذه الحقبة ألساندرو سكارلاتى 1680 ـ 1725 بوفرة إنتاجه وإصراره الفنى وأصبح على قمة تاريخ الموسيقى فى نابولى ولم يحاول قط أن يسترضى الجمهور وقد تصدى لمسألة الشعبية وظل مخلصا للتأليف الصوتى والآلى الرفيع وقد رأى أن من يفضله هم الملحنون الذين يستخدمون لغة سوقية ولكن ذلك لم يمنعه من وضع 115 أوبرا إلا أن أحد تلاميذه هو جيوفانى بونونتشينى 1670 ـ 1750 سافر إلى فرنسا وإنجلترا حيث كان سفيرا مسموع الكلمة فى الفن الغناء الإيطالى وقد لخص ماركو دا جاليانو 1575 ـ 1642 الذى عثر له على إثنتين من أوبراته هما "دافنى" و"فلورا" لخص بطريقة فيها إطراء ماذا كان هذا الفن الجماعى فقال "إنه عرض يليق حقا بالأمراء وينال بصفة خاصة إعجاب الجميع ذلك أنه يجمع كل متعة سامية مثل الإبداع الشعرى والدراما والفكر والأسلوب وحلاوة السجع وسحر الموسيقى ومجموعة الأصوات والآلات وجمال الغناء ورقة الرقص والحركات وجاذبية الرسم فى الديكورات والثياب وأخيرا الذكاء وأنبل المشاعر التى زاد فى سحرها الفن الكامل الذى أستنبطته عبقرية الإنسان" .
  • فرنسا وإنجلترا 

ولما كان بلاط الملك شارل الثانى يضم عددا من عازفى الآلات الفرنسيين وعددا من أساتذة الموسيقى الإيطاليين فإن الأوبرا البريطانية أتسمت بالعبقريتين الفرنسية والإيطالية حتى جاء هنرى بورسيل ولا يعرف الكثير عن حياة أمير الموسيقيين الإنجليز غير أن بورسيل كان تلميذا لكل من كوك وجون بلاو فلما أجتذبه المسرح كتب حوالى 50 قطعة موسيقية مسرحية كان أغلبها لمسرحيات شكسبير والتى يمكن إعتبارها أنصاف أوبرات ومنها "الملك آرثر" و"الملكة الجميلة" و"العاصفة" و"تيمون وأثينا" و"الملك ريتشارد الثانى" و"الملكة الهندية" وغيرها والأوبرات الست الحقيقية التى لحنها بورسيل كان يسيطر عليها لحنه الأصيل "ديدو وأينياس" عام 1688 الذى وضعه لعدد من العروض الدرامية فى إحدى الكليات ورغم رشاقة وقوة ألحان بورسيل فإنه لم يتوصل إلى أن يفرض على الجمهور الإنجليزى نوعا من الأوبرا الوطنية وكانت الثورة الموسيقية التى تمت فى إيطاليا فى مطلع القرن 17 لم تؤثر فى الفرنسيين الذين ظلوا متمسكين بما يعرف بأسم "لحن البلاط" الذى نشأ تحت حكم لويس الثالث عشر ثم قدم الشعب "فوا دى فيل" أى صوت المدينة ويقول بعضهم إن كلمة فودفيل مشتقة من هذه العبارة والأغانى الساخرة ذات الإتجاه السياسى التى بعثت الرعب فى ذلك العهد وكان باليه البلاط كذلك موجودا وكان العرض فيه يتكون من الإيماءات والرقصات الفرنسية المجلوبة من الخارج وكذلك الألعاب البهلوانية وكل ذلك فى ديكورات وحركة على الطريقة الإيطالية وكانت العروض تتم بالإيماءات والأناشيد ثم بدأ يدخل الإلقاء والحركات الدرامية وكان ذلك هو الطريق الحقيقى لأشكال الأوبرا .
وفى عام 1646 خلال الكرنفال أمر الكاردينال مازاران بعرض الأوبرات الإيطالية بالإستعانة بالأصوات الإيطالية الجميلة وبصفة خاصة أوبرا "أورفيو" للويجى روسى وإخراج جاكوبو توريللى الملقب بأسم "الساحر الكبير" وبعد ذلك أكد بعضهم "أن الفرنسيين كانوا موسيقيين عاديين مما لم يجعلهم غير قادرين على إستيعاب هذا التجديد" وكان من قال ذلك هو جان باتيست لولى الذى كان من أصل إيطالى وكان هو الذى صنع الأوبرا الفرنسية كان رجلا غريبا هذا الفلورنسى القصير القامة الذى ولد يوم 26 نوفمبر 1632 من أبوين يعملان فى الطواحين بحى سانتا لوتشيا سول براتو وقد جاء الشيفالييه دى جيز به غلاما إلى مدموازيل مونبانييه من إيطاليا وكان فى الحادية عشرة والنصف من عمره وكان مسليا فاسدا ثم أصبح صفحة موسيقية وفتى صالون وليس مرمطونا كما كان يقال له مرارا وتكرارا وحصل فى هذا الوضع على رضاء لويس الرابع عشر الذى كلفه يوم 16 مارس 1653 مهمة هامة وهى تلحين الموسيقى الآلية .
وفى عام 1660 وفى حفلات زواج الملك وصلح البرانس أستقدم مازاران من مدينة البندقية كافاللى لكى ينظم عروضا للأوبرا وكلف لوللى بوضع عرض للباليه وبغير أن يطلب نصائح زميله ومواطنه بذل جهده لكى ينافسه مما جعله يصبح بطلا للموسيقى الفرنسية وكان من شأن هذه المبادرة أن تجنس بالجنسية الفرنسية ومنح لقب "المدير العام للموسيقى" عام 1661 الأمر الذى أتاح له أن يصبح على قدم المساواة فى البرتوكول مع الوزراء وقد فرضه لويس الرابع عشر تقريبا على موليير لكى يضع موسيقى "زواج بالقوة" وهنا بدأت تنشأ الكوميديا الراقصة وهذا النوع من العروض مع إمتزاجه بالحبكة الدرامية وبالرقصات والأغانى أحرز نجاحا جعل هذا التعاون يستمر ثمانى سنوات ثم كانت خيلاء الموسيقى وهى التى أنهت هذا التعاون المثمر بين الرجلين وأخيرا جاءت أول تراجيدية موسيقية له وهى "كادموس وهرميون" وهى أول أوبرا فرنسية جديرة بهذا الإسم وفى يوم 27 أبريل 1673 جاء الملك خصيصا من فرساى لسماعها وقد ظل مذهولا منها إلى حد أنه طرد فى اليوم التالى ممثلى موليير من قاعة القصر الملكى لكى يعرض فيه الأوبرا الجديدة فى إطار جديد جدير بمقامه بل إن لوللى حصل منه على مرسوم يجعله متصرفا فى المسرح الموسيقى الفرنسى .
لقد كان من حقه أن يسمح بعرض الأعمال الغنائية وكذلك حظر إستخدام أكثر من إثنين من المغنين وإثنين من عازفى الكمان على أى مدير مسرح لمصاحبة ممثليه وقد أقتبس مما كتبه شعراء مثل كينو وكامبيسترون وتوماس كورناى ما جعله يخرج كل عام واحدة من تراجيدياته الموسيقية مثل "ألسست" و"وآتيس" و"تيزيه" و"سيشيه" و"بلليروفون" و"بروزربين" و"إنتصار الحب" و"فايتون" و"أرميدا" و"أماديس" و"رولان" و"برسيه" و"بوليكسين" وهذه الأعمال بعيدة كل البعد عن النمط الإيطالى :
  1. للأهمية الكبيرة التى أولاها للأوركسترا عن طريق إدخال المشاهد الراقصة 
  2. للخط الصوتى المنخفض الذى كان يكسو الأبيات بغير أن يشوهها وبصفة خاصة للوحدة فى المفهوم العام 

وهذا المستبد الذى حال طوال 15 عاما الملحنين فى زمانه من العمل فى المسرح الغنائى قد حرمنا بغير شك من بعض الموسيقيين المرموقين ولا يتجه فكرنا إلا إلى مارك أنطوان شاربانتييه 1634 ـ 1704 الذى حرم إلا من كتابة موسيقى دينية ومع ذلك أستطاع أن يقيم الدليل على صفات فذه فى مقطوعته "ميديه" وهى الأوبرا الوحيدة التى خول حق وضعها بعد رحيل منافسه القوى ولم تكن الفترة التى ساد فيها لوللى سوى مقدمة لتاريخ عجيب هو الذى أسرع بمولد عدد كبير من التحف الخالدة وكان ذلك خلال ثلاثة قرون إبتداء من دون جوان دى موزار إلى ووزيك دألبان برج ومن تريستان وإيزولد دى فاجنر إلى بلياس وميليساند دى ديبوسى مرورا بكل من برجوليز وروسينى وبللينى ودونيتزيتى وفردى وبوتشينى ومينوتى من الإيطاليين وجلوك وبيتهوفن وفيبر وريتشارد شتراوس من الألمان ورامو وبرليوز وجونود وبيزيه وماسينيه ورافيل فى فرنسا وبنيامين بريتن فى إنجلترا ومانويل دى فالا فى أسبانيا وموسورجسكى وبورودين وتشايكوفسكى فى روسيا .

مواضيع ذات صله:

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق