يوسف صديق



الفارس الذى اسماه زملاؤه رب السيف والقلم وهو ذات الاسم الذى اطلق على البطل محمود سامى البارودى احد قادة الثورة العرابية 





إنا وهبنا للجهاد نفوسنا
لا نبتغي رتبا ولا أطماعا
والمؤمنون المخلصون يزيدهم
ظلم الحوادث شدة وصراعا
ثمة أحداث جسام ترتبط بأشخاص عظام بحيث لا يمكن الحديث عن الحدث إلا بالحديث عن الشخص مثل ثورة 1952 مثلا لا يمكن الحديث عنها دون الحديث عن خالد محيي الدين ويوسف صديق وغيرهما من الصناع الحقيقيين للثورة .
يوسف صديق الفلاح ابن الفلاح ضابط ابن ضابط من 1910 ولد يوسف لأسرة ريفيه في قرية "زاوية المصلوب" مركز الواسطي بني سويف الأب ضابط في الجيش يفيض حماساً مصرياً ضد تحكم الإنجليز في الجيش المصري ويصطدم بالقادة الإنجليز الذين كانوا يتحكمون في فرقته العاملة في السودان ويتوفي الأب ويوسف لم يزل في عامه الأول ويكفله خاله اليوزباشي محمد توفيق علي وهو أيضا ضابط ثائر علي الإنجليز وانتهي به الأمر أن ألقي باستقالته في وجه الجميع ليبقي مزارعا في زاوية المصلوب ولم ينس يوسف أبداً الحكايات والحوارات التي ظل خاله يرددها علي مسامعه طوال فترة طفولته وشبابه عن الإنجليز واضطهادهم لضباط الجيش المصريين ورغبتهم باستمرار التحكم في الجيش وقياداته واضطهاد أي ضابط وطني .
  • 1924 يتم دراسته الإبتدائية ثم يرحل إلي القاهرة ليصبح طالبا في الخديوية الثانوية في زمن تفجرت فيه مظاهرات عنيفة ضد الاحتلال وعملاء الاحتلال ويوسف ينغمس في ذلك كله
  • 1930 ينهي يوسف دراسته الثانوية يتذكر الثأر الكامن في أعماقه ثأر أبيه وخاله وثأر مصر وينضم إلي المدرسة الحربية
  • 1933 يوسف ضابطا في الجيش 

ويتميز الضابط الشاب بحماسته وجديته وأيضا بأنه شاعر القوة التي يخدم فيها وعندما يصدر قرار ظالم بإحالة الأميرالاي سليمان عبد الواحد شبل إلي الاستيداع ينظم يوسف وزملاؤه حفل وداع ويدهش الجميع عندما يشدو الضابط يوسف صديق بشعر ثوري شجاع فيخاطب المحتفي به قائلاً:
يا صاحب القلب الكبير تحية
فلقد بدأت ولا أقول وداعا
حررت من قيد الوظيفة فانطلق
حرا وأطلق للكفاح شراعا
عار الوظيفة أن تضام بها إذا
كنا الرجال ولم نكن أتباعا
ونفوس أهل الحق تأبي حرة
وكريمة أن تشتري وتباعا
ويتحدث يوسف صديق عن مسيرته قائلاً: "بدأت بالاتصال بالإخوان لكنني تركتهم لجمودهم العقائدي الذي لا يرضي ما أخذت به نفسي من ثورة ولم يدم اتصالي بهم أكثر من شهور ثم اتصلت بالشيوعيين وكنت مقدراً لدور الاتحاد السوفيتي في الحرب العالمية الثانية  وكانت علاقتي الحزبية مع الضابط أحمد حمروش أحد ضباط المدفعية في حدتو وقد أعجبني في الشيوعية أنها تغرس حب العدل في النفوس وتعمل لتحقيق السلام علي الأرض وإقامة المحبة والتعاون بين الناس فهي لا تفرق بين الناس لأنسابهم ولا أحسابهم وإنما تعمل علي إلغاء استغلال الإنسان لأخيه الإنسان ولم أشعر ولو للحظة أن تطبيق هذه المبادئ يتعارض مع عقيدتي الدينية فقد داس الإسلام تيجان الأباطرة والأكاسرة بأقدام الشعوب (أحمد حمروش - شهود وثورة يوليو - صـ 433) ويحكي "بعد اعتقال عديد من قيادات حدتو في نهاية الأربعينيات كلفت بطباعة المنشورات في بيتي بثكنات الضباط في العباسية باعتبار أن هذا مكان آمن من هجمات البوليس كنت أكتب البيانات بخطي علي البالوظة ثم أطبعها أنا وعلية (زوجته المناضلة علية توفيق) وكنت أتأفف وأسأل عليه "هي الثورة حتتعمل كده ؟ تبتسم وأبتسم ونواصل العمل" (محضر نقاش أجريته في 3/8/1966) .
لكن يوسف يعبر عن رأيه في إمكانية تحرير الوطن بالبيانات قائلاً:
صنعوا الأقلام وامتشقوا الحساما فرب السيف قد حمل الوساما
وقولوا للذين يرجو خلاصا بتنميق الكلام كفي كلاما
ومن نادي بغير الجيش يهذي
وعن نور الحقيقة قد تعامي
ولعلها المحاولة الأولي لإدارة صراع فكري داخل تنظيم شيوعي .. شعراً
ويمضي يوسف صديق في أحاديثه الثائرة في ميسات الضباط بما لفت أنظار جمال عبد الناصر إليه وبدأ الاتصال به، فأرسل إليه الضابط وحيد رمضان وكان تلميذا له في الكلية الحربية ليحذره من أن "الحرس الحديدي" يرصد اجتماعات يعقدها في منزله ثم ليعرض عليه الانضمام الى الضباط الأحرار وتأخر رد يوسف صديق حتي يستأذن التنظيم وتلقي الموافقة بشرط ألا يكشف عضويته بحدتو والمثير للدهشة أن عبد الناصر لم يعرف أن يوسف صديق الذي اسماه زملاؤه رب السيف والقلم وهو ذات الاسم الذي أطلق علي البطل محمود سامي البارودي أحد قادة الثورة العرابية انه شيوعيا إلا بعد الثورة وبعد أن أصبح يوسف عضوا في مجلس قيادة الثورة .
"وبعد الثورة بأيام أقام القاضي أحمد فؤاد وكان مسئول قسم الجيش في بيته حفل عشاء محدودا ودعا إليه عددا من قيادة الثورة .. وكمال عبدالحليم دخل كمال عبدالحليم واحتضنني وقبلني وقال إزيك يا أبوحجاج والتقطت العينان اليقظتان لعبدالناصر هذه المصافحة ويومها فقط أدرك جمال أنني شيوعي" .
كان يوسف صديق قد أصبح قائم مقام وكان أعلي الضباط الأحرار رتبة باستثناء محمد نجيب الذي لم يكن له علاقة مباشرة معهم كان قائدا للكتيبة الأولي مدافع ماكينة وصدر الأمر بنقلها من العريش إلي القاهرة فكانت الفرصة الذهبية للضباط الأحرار لكن يوسف ما لبث أن سقط مريضا فور وصوله مع طلائع الكتيبة كان مريضا بصدره وآلام لا تطاق والدم ينزف من فمه زاره عبدالناصر وعبدالحكيم عامر في بيته يوم 20 يوليو فزعا من حالته وقال جمال: "يا خسارة لن تستطيع أن تشارك معنا" لكنه أصر علي المشاركة فكل أحلامه وأحلام أبيه وخاله وأحلام تنظيمه توشك أن تتحقق وفي ليلة 23 يوليو حقنه الطبيب ليوقف النزيف وتحرك بقواته ليحقق الحلم وفيما هم يتحركون قابلهم قائد الفرقة اللواء عبدالرحمن مكي وهنا أصبح الخطر يهدد كل شيء فالقائد الأعلي رتبة أمره مطاع وفجأة أخرج يوسف صديق مسدسه وأشهره في وجه اللواء وقال ببساطة واحترام "سيادة اللواء أنت مقبوض عليك" .
وقبض عليه وفي حوار معه سألته: كيف فعلتها ؟ فأجاب لو ترددت دقيقة واحدة كان اللواء سيصدر أمرا وسيطيعه الضباط الصغار أو سيترددون وتفشل الثورة وفي الطريق ألقت قواته القبض علي جمال عبدالناصر وعبدالحكيم عامر بملابسهما المدنية وأخلي سبيلهما ليعودا إلي البيت لارتداء الملابس العسكرية وفي ذات الحوار سألته: ألم تفكر في أن تستمر في القبض عليهما وتتولي أنت قيادة الثورة ؟ فنظر إلي غاضبا وقال "يا رفيق نحن شيوعيون ولسنا أوغادا" ويمضي يوسف صديق في حواره "وعلمت من جمال وعامر أن قادة أركان الجيش مجتمعون في مبني القيادة العامة المجاور وأن أمر الثورة قد كشف وقلت لهما: العجلة دارت خلاص ولا تراجع وإذا كانوا في مبني القيادة فأنا ذاهب إليهم" وذهب وأوقعهم جميعا في المصيدة وقبض عليهم جميعا وعلي مكتب القائد العام للقوات المسلحة جلس يوسف صديق ليدير عملية الاستيلاء علي السلطة وبعدها حضر جمال عبدالناصر وببساطة وقف يوسف صديق وأجلسه مكانه .
وأتأمل المفارقة يوسف أنجز جزءا مهما من المهمة وهو أعلي رتبة من جمال ولكنه وقف وأسلمه زمام القيادة وأسأله كيف فقال: "تعلمت في حدتو أن أحترم المسئول حتي لو كان أصغر سنا أو مكانة وتعلمت أن أحترم العهد وأن أتصرف بأخلاق وأنا لم أكن أسعي إلي سلطة أو منصب فقط كنت أسعي لتحرير شعبي ووطني" لكن التصادم يأتي سريعا فقد طالب يوسف بحكومة ائتلافية مدنية وانتخابات حرة وديمقراطية كاملة ودستور جديد يكفل للمواطنين حقوقهم .. وبعدها يعود الجيش إلي الثكنات وتهكم عليه واحد من أعضاء مجلس الثورة "وكان جمال قد أبلغهم أن يوسف صديق شيوعي" فقال له: أنت عامللي فيها يوسف ستالين ولم يجد يوسف أمامه سوي دواية الحبر فقذفها في وجهه.. وبدأ الصدام الحاد .
ونحي يوسف صديق من مجلس قيادة الثورة في إطار حملة ضارية قادها الحكم ضد الشيوعيين وفي أواخر 1953 بدأت الضربات تتوالي قضايا يقبض فيها علي أعداد كبيرة وغير مسبوقة واختفي الناجون من أعضاء القيادة ووجدنا نحن أعضاء رابطة الطلبة الشيوعيين - حدتو - أنفسنا وحدنا وبلا قيادة لكننا واصلنا عملا نشطا وذات يوم اتصل بي زميل كان في خلية بحقوق عين شمس ليقول: إنه علي علاقة بيوسف صديق وأنه طلب منه أن يرتب لقاء مع المسئول وأصابتني حيرة فنحن لم نجد أي سبيل للاتصال بمسئولين فالجميع مختفون إذ كنا أعضاء في تنظيم مستقل تقريبا هو رابطة الطلبة الشيوعيين والمسئول عن هذه المجموعة من الطلاب هو أنا وقلت الحقيقة للزميل فنقلها ليعود ويقول هو يريد مقابلة مسئول المجموعة الطلابية وقابلت أنا الطالب في السنة الثانية حقوق هذا القائد المهيب وكان مهيبا في الأداء والسمعة والخبرة وأيضا في الشكل تمشي البطل في الحجرة ذهابا وإيابا وبدأ الحديث..
عبدالناصر يستعد لتوقيع اتفاقية الجلاء ويود أن يضمن تأييدا من حدتو التي كانت تسعي بنشاط لتكوين الجبهة الوطنية الديمقراطية أو حتي تهدئة في معارضتها للاتفاقية وكبداية للمصالحة عرض علي يوسف صديق أن يكون سفيرا في الهند ليدرس ما يدعو إليه نهرو من سياسة غامضة اسمها "الحياد الإيجابي" وفيما يغادر يوسف لم ينس عبدالناصر أن يلوح بالعصا الغليظة فقال ليوسف وهو يبتسم وكأنه في حالة هزار "قول لعلية تبطل نشاط وإلا سأعتقلها" .
استمعت للرواية وزدت حيرة وخوفا أما الإجابة التي قلتها فكأنها كانت رسالة استفزاز قلت قل لعبدالناصر قادتنا في السجون أفرج عنهم وتشاور معهم ودارت ماكينة الإرهاب أكثر فأكثر وحددت إقامة يوسف وسجنت زوجته علية ورد عليهم يوسف بقصيدة يذكرهم فيها بأنهم كانوا في قبضته يوم الثورة وأنه بأخلاقياته أفرج عنهم أما هم .. وعندما كان عدوان 1956 ترك منزله رغم الإقامة الجبرية ودون إذن من أحد فالوطن يناديه وذهب إلي غرفة العمليات واضعا نفسه تحت إمرة من قيدوا حريته وفي 31 مارس 1975 آن للفارس المهيب والقائد الشجاع أن يرحل .
لكن هل يرحل حقا أمثال يوسف صديق ؟

مواضيع ذات صله:

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق