الثورة المفقوده
كان عام 1976 بدرجة او بأخرى بروفه اخيرة لإنتفاضة عام 1977 ولا يمكن ان نجد توصيفا للحالة الاقتصادية افضل من تصريح وزير المالية بأن العام 1975 كان "العام الاسوأ اقتصاديا فى تاريخ مصر الحديث" دعا رئيس الوزراء الى اتخاذ اجراءات تقشفسة وألتمس العون من "الاشقاء العرب" وكانت مصر على شفا انفجار اجتماعى ووقعت مواجهات عنيفة ما بين قوات الشرطة والمحتجين فى مدينة دمياط بشهر مارس حين تظاهر عمال مطالبين بأجورهم المتأخرة عن 18 يوما من العمل واضطر النظام تحت الضغط بإطلاق سراح العمال المحتجزين واستجاب لمطالبهم وفى مايو اعلن عمال احد المصانع الحربية الاضراب واحتلوا المصنع نتيجة صراع متعلق بالاجور وظروف العمل أبدى العمال درجة عالية من الصلابة ورفضوا التفاوض مع وزير الدفاع الذى وصل بصحبة قوة شرطة عسكرية هائلة علاوة على ذلك اعلن العمال تهديدهم بتفجير المصنع وأذعن الوزير فى النهاية لمطالب العمال وفى الشهر التالى اضرب آلاف عمال النقل مطالبين بحصتهم من الارباح واتسع نطاق الاضرابات الى اغلب الصناعات المركزية حيث اوقف العمال العمل فى مصنع النقل الخفيف فى حلوان وفى مصنع نسيج مصر حلوان وفى شركة الشرقية للدخان وفى الترسانة البحرية بكل من الاسكندرية وبورسعيد وتكررت كذلك احداث مشابهة لاضراب المحلة الكبرى 1975 وفى كفر الدوار مع احتلال للمصنع ومواجهات عنيفة ادت الى مقتل واصابة عدد من العمال تزامنت تلك الصدامات مع انتفاضة فى مدينة المنزلة ضد ممارسة التعذيب من جانب الشرطة تبعها هجمات وقصف بالحجارة من قبل المواطنين على اقسام الشرطة فى كل من شبرا الخيمة والسيدة زينب والدرب الاحمر احتجاجا على وحشية جهاز الشرطة واخيرا وفى تحرك اظهر بكل وضوح مدى تآكل شرعية السادات وقام عمال النقل العام فى القاهرة بالاضراب عن العمل بعد مرور اقل من 24 ساعة فقط على اعادة الاستفتاء الرئاسى للسادات فى اقتراع مزور جاءت نتيجة "نعم" بنسبة 99% مما اسفر عن شلل تام للحياة فى المدينة على مدار يومين .
- المحفز
ليلة 17 يناير 1977 وجه رئيس الوزراء الدكتور عبدالمنعم القيسونى خطابا لمجلس الشعب وتبعه وزير التخطيط الذى عرض خطة التنمية الاجتماعية والاقتصادية واخيرا قدم وزير المالية الموازنة العامة الحكومية للعام المالى 1977 استهدفت الخطط الحكومية الجديدة وضع زيادة مباشرة لاسعار العديد من السلع الاساسية بحيث يتم الغاء نحو 277 مليون جنيه قيمة الدعم الحكومى كان للسلع الاساسية نصيب الاسد من الدعم الملغى والذى بلغ 205 مليون جنيه فأتى رد الفعل على التصريحات الحكومية من مناطق الطبقة العاملة والفقراء حيث تجمع مواطنون وعمال فى بعض ميادين الاسكندرية والقاهرة وخاصة فى المناطق الصناعية مثل حلوان وذلك ليلة السابع عشر من يناير .
- بداية احداث الانتفاضة
فى صباح 18 يناير انتشرت انباء نقص او الغاء الدعم الحكومى عبر الاذاعة والصحف وبدأ عموم الناس يشعرون بالاثر المباشر فى ارتفاع الاسعار حيث ارتفعت اسعار كل من البنزين والزيت والسجائر والسكر والخبز والارز والمكرونة واجرة التاكسى وبدأت الانتفاضة .
فى جنوب القاهرة اتخذ عمال حلوان المبادرة الاولى وقبل التاسعة صباحا دخل آلاف من عمال مصنع مصر حلوان للنسيج فى اضراب عن العمل ونزلوا الى الشوارع فى الحى الصناعى وسرعان ما انضم اليهم عمال من مصانع اخرى وعلى وجه الخصوص المصانع الحربية وعلت الهتافات المنددة بارتفاع الاسعار مطالبة باسقاط الحكومة ومعبرة عن عدوانية ومرارة تجاه السادات واسرته وبالتزامن اعلن عمال من منطقة شبرا الخيمة شمال القاهرة اضرابهم عن العمل واحتلوا مصانعهم واوقفوا عجلة العمل فى شركة دلتا للصلب واصدر العمال بيانا ساخرا موجه للرئيس السادات قائلين: "عمال الدلتا للصلب يشكرونك على رفع الاسعار رافعين شعار "المزيد من رفع الاسعار من اجل المزيد من الجوع والفقر" .
عقد طلبة كلية الهندسة بجامعة عين شمس مؤتمرا نددوا فيه بارتفاع الاسعار وانطلقوا فى مظاهرة وانضم اليهم طلبة الكليات الاخرى وتوجهوا الى مجلس الشعب للتعبير عن رفضهم للاجراءات الاقتصادية الجديدة وعند مرورهم بشارع الجيش انضمت اليهم نساء من الاحياء الشعبية وفى ميدان التحرير انضم الى المظاهرة الموظفون الحكوميون وطلاب جامعة القاهرة جنبا الى جنب مع مظاهرات اخرى أتت من جنوب وغرب القاهرة توجهت الموجات الهائلة من البشر مباشرة الى مجلس الشعب وهى تهتف بشعارات ضد النظام .
دخل الى مبنى المجلس وفد من الطلاب مقدما مجموعة من المطالب لاعضاء مجلس الشعب وعندما لم يعد هؤلاء الطلاب لفترة طويلة قادت النساء محاولة للمتظاهرين بمهاجمة الحرس ظنا انه تم القبض على الطلاب الموفدين ردت الشرطة على هذا ردا عنيفا وفرقت المتظاهرين الى مجموعات صغيرة فى جاردن سيتى واحياء اخرى وانطلقت المظاهرات فى مدينة الاسكندرية نحو التاسعة صباحا بقيادة عمال الترسانة البحرية وسرعان ما انضم اليهم عمال من المصانع المجاورة وانتشرت المظاهرات فى شوارع المدينة وتوجهت الى جامعة الاسكندرية حيث خرج آلاف الطلاب للانضمام للمسيرة امتدت التظاهرات والاضرابات والمواجهات الى محافظات المنصورة وقنا والسويس واسوان واغلب المراكز الحضرية فى مصر .
- العنف
قبل يومين من اندلاع الانتفاضة توجه وزير الداخلية بالحديث الى مجلش الشعب معلقا على احداث الشغب والمواجهات بين المواطنين والشرطة التى جرت فى بلدة "بيلا" الصغيرة فى دمياط قائلا: "إن ظهور قوات الامن المركزى بأسلحتها فى اى مكان يثير توتر الموقف" وعلى الرغم من هذه الملاحظة فقد حشد وزير الداخلية آلاف من جنود الامن المركزى لقمع التظاهرات يوم 18 يناير .
ويؤكد احد شهود العيان: حتى ليلة 18 يناير كانت المظاهرات سلمية وعلى الرغم من ذلك وفجأه قرب الساعة السابعة مساء وبعد سلسلة من المواجهات مع قوات الامن المركزى تحولت الاحداث الى العنف والتخريب .
واحدى المجلات المقربة من الرئاسة كتبت حول احداث العنف: جرت محاولات لقطع السكة الحديدية ما بين القاهرة والاسكندرية حين قام متظاهرون بوضع عدد من اطارات السيارات المشتعلة على القضبان وقد ادى هذا الى احتراق روابط الخطوط لمسافات طويلة كما اشعل المخربون النيران كذلك فى محطة كوبرى الليمون مما تسبب فى ايقاف قطارات الضواحى ونجح المتظاهرون فى الجيزة قطع السكة الحديدية ما بين القاهرة والصعيد بوضع حواجز مستطيلة على السكة الحديد وكسر الاشارات الضوئية من فوق قضبان القطارات .
واضافت المجلة نفسها: دمر المتظاهرون محطة البنزين الرئيسية فى ميدان الجلاء كما خربوا جزءا من فندق شيراتون واشعلوا النيران فى محطة قطارات امبابة والقطارات التى تنقل المحاصيل للمستودعات اضافة الى ذلك فقد اشعل المتظاهرون النيران فى كازينوهات شارع الهرم وقد ألحقوا دمارا تاما بالملاهى الليلية الاريزونا والاوبرج وفى وسط مدينة القاهرة هاجم المتظاهرون الحزب "الحاكم" حزب مصر العربى الاشتراكى فى ميدان العتبة واحرقوا محتوياته كما حاولوا اقتحام قسم الشرطة فى المنطقة نفسها وحطموا نوافذه اضافة الى ذلك احرق المتظاهرون جزء من كازينو الاوبرا وحطموا الواجهات الامامية لمتاجر فى الميدان ونجحت احدى التظاهرات فى بلوغ مقر وزارة الداخلية وقد ردت قوات الامن المركزى عليهم بالزخيرة الحية وقنابل الغاز لتفريقها وفى ميدان الجيش اشعل المتظاهرون النيران فى اطارات السيارات بداخل المتاجر .
وفى الاسكندرية اضرم المتظاهرون النيران فى مقار الاتحاد العربى الاشتراكى بمنطقة المنشية بينما حاول المتظاهرون فى السويس اشعال النيران فى محطة السكة الحديد مما شل حركة القطارات تماما كما انهم هاجموا قسم شرطة فى منطقة الاربعين وسيطروا على الاسلحة والذخيرة ومع ذلك ففى المناطق الصناعية لم يرد ذكر اية اعمال تخريب إلا فيما ندر وفى 19 يناير وفى الجيزة نحو السابعة صباحا تأخر عمال وردية الليل عن الموعد المحدد لانصرافهم فى مصنع الشوربجى للنسيج فى امبابة من اجل ان يلتقوا بعمال وردية الصباح الآتين وتجمع العمال وقرروا الاضراب متوجهين الى مصانع اخرى فى المنطقة لتشجيعها على الانضمام لتظاهرتهم فتوجه العمال الى مصنع الشرق للصوف للاتحاد مع عمال النسيج فيه تضخم حجم التظاهرة وتوجهت الى المطابع الاميرية فى المنطقة نفسها وفى نحو الثامنة صباحا اعلن الاضراب عن العمل كل من عمال شركة الحرير الصناعى ومصنع 45 الحربى وتجمعوا ثم خرجوا فى مظاهرة وتوقفت وسائل النقل ما بين حلوان والقاهرة بعد ان وضعت على القضبان الحديدية للقطارات احجار ضخمة منتزعه من ارصفة الشوارع ونجحت الشرطة فى تفريق مظاهرة عمال حلوان امام محطة القطار المؤدية الى المصانع فتوجهت مسيرة العمال الى مركز المدينة وكذلك فى الصباح نفسه اعلن عمال مصنع سوجات اضرابهم عن العمل وبدأوا التظاهر فى شوارع حدائق القبة وبعد ذلك بوقت قصير اجتاحت المظاهرات المدينة بأكملها وراح المتظاهرون يهاجمون ويقتحمون المؤسسات الحكومية وخصوصا اقسام الشرطة والجهات الامنية ووسائل النقل العامة والخاصة وفنادق الخمس نجوم والكازينوهات والبنوك ووقعت مصادمات دامية عديدة ما بين المتظاهرين والشرطة من اجل منعهم من الاستيلاء على الاسلحة المخزنة فى اقسام الشرطة وبحلول ما بعد الظهر كانت التظاهرات مازالت منتشرة تجمع عدد كبير من العمال والطلاب فى ميدان التحرير متوجهين نحو مجلس الشعب رافضين اوامر الشرطة بالتفرق ووقعت تظاهرات عنيفة مماثلة فى العتبة والدرب الاحمر والسيدة زينب وهوجمت كذلك العديد من الجمعيات الاستهلاكية الحكومية وتوجه جزء من المظاهرات نحو قصر عابدين الرئاسى وحاول الحشد بصورة عفوية ان يكسب تضامن الجنود بأن هتف "يا اخونا يا جندى الجيش .. شعبك حافى ولابس خيش" .
وفى ميدان الجيزة جرت مصادمات دامية ما بين الشرطة والمتظاهرين فحولت الميدان الى ساحة معركة فتوجه المتظاهرون الى منزل الرئيس والذى كان يقع بالقرب من جامعة القاهرة وهتف الطلاب بشعارات ضد الحكومة منتقدين السادات نفسه ومطالبين بإقالة الحكومة بما ان "الشعب المصرى ليس بحاجة لحكومة تسلبه رغيف الخبز" .
بحلول ليلة 19 يناير قام النظام بإلغاء القرارات التى حفزت الاحداق وامر وحدات الجيش بالانتشار فى الشوارع للقضاء على المظاهرات بالقوة وهو تكتيك ذو جانبين كان له اثره الهائل على الاحداث ما ادى الى تراجع الجماهير ورغم ذلك فإن الانتفاضة لم تتوقف حتى صباح 20 يناير كما اشارت تقارير الشرطة الى ان: واصل المتظاهرون تجمعهم وتحركوا الى منطقة امبابة وواصلت الحشود محاولة مهاجمة القوات عندما حاولت مواجهتهم وتركزت تلك الحشود فى مناطق الكيت كات والمنيرة وفى نفس الاثناء نحو الساعة الخامسة مساء 19 يناير اشعل المتظاهرون النيران فى شاحنتين ودمروا مكتب مأمور قسم الكيت كات وتواصلت المصادمات ما بين الحشود وقوات الشرطة حتى الثانية صباحا من يوم 20 يناير 1977 كما كتبت احدى الصحف بيوم 20 يناير: تواصلت بالامس التظاهرات العنيفة فى القاهرة والاسكندرية حتى وقت متأخر من الليل وقد قتل واصيب كثيرون من المتظاهرون بالاضافة الى القبض على المئات .
- التخريب
تؤكد التقارير الصادرة عن الشرطة المصرية حول احداث 18 و19 يناير اشعال النيران فى مصنع الشوربجى للنسيج بامبابة ورغم ذلك فإن التقارير نفسها تشير الى دور عمال المصنع فى "السيطرة على الحريق ومنع انتشار النيران بالتعاون مع قوات المطافئ" ويشير ذلك المشهد بالإضافة الى غيره من المشاهد الى ان تركيز عمليات التخريب كان فى الاحياء الفقيرة والعشوائية ووسط المدينة وليس هناك تقريبا اية تقارير حول احداث تخريب فى المناطق الصناعية او فى الجامعات الرئيسية بالقاهرة والاسكندرية وعلى النقيض فقد صرحت تقارير عديدة بمحاولات العمال والطلاب ايقاف اعمال التخريب فكتبت احدى الصحف يوم 20 يناير: "اغلب المتظاهرين صباح الامس كانوا من الشباب طلابا وعمالا حاولوا ايقاف عمليات السلب والنهب دون ان يحالفهم التوفيق فى ذلك" وتؤكد شهادة غالى شكرى (الثورة والثورة المضادة فى مصر ـ كتاب الاهالى 1987): "لم يتم تخريب اى جامعة وطنية او مؤسسة او مدرسة ولم يتم تخريب اى مصنع او تدمير ماكينة واحدة .. حتى ان المتظاهرين اتيح لهم الوقت لان يحركوا عربة يد خشبية بسيطة ملك احد الباعة الجائلين الى مكان آمن فى شارع جانبى خوفا من إتلافها وقد اشار العديد من الشهود والمراقبون الى المشاركة النشطة والواسعة للشباب القصر فى اعمال السلب والتخريب" وكتب احد الصحفيين: "19 يناير كان على ان اعود للبيت (من العمل) سيرا مرورا بميدان التحرير وشارع قصر العينى وطوال الطريق كانت هناك معارك ما بين عشرات الشباب القصر وقوات الامن" احد الصحفيين الفرنسيين ممن شهدوا الاحداث كتب: "برز اطفال صغار السن يرتدون جلابيب قذره دون ان يلحظهم الجنود وفجأه بدأ الاطفال يلقون بعبوات كوكتيل المولوتوف على المدرعات ثم يجرون صارخين بدأ الجنود يطلقون الرصاص ولكن الاطفال كانوا قد اختفوا" ويصف احد اليساريين الذين شاركوا فى الاحتجاجات سلوك هؤلاء القصر قائلا: "ما ان كانت تمر عربات الامن المركزى كان آلاف الاطفال كأنما يظهرون من العدم بإمطارها بالحجارة والطوب" ويتذكر محمد يوسف الجندى حين كان عابرا بأحد شوارع القاهرة: كان هناك عشرات الاطفال يلقون الحجارة على السيارات وحين رأوا سيارتى امطروها بالحجارة كذلك" واشارت صحيفة الاهرام الى انه: فى جنوب القاهرة بلغت نسبة المقبوض عليهم من القصر 15% ممن هم اقل من 15 سنة و20% ممن هم اقل من 18 سنة وكذلك كانت نسبة الطلاب ممن قبض عليهم كانت اقل من 10% .
- النظام فى ازمة
فى تعليق غالى شكرى على الانتفاضة يصف ازمة النظام بطريقة مجازية: "امضى النظام ليلتى 18 و19 يناير فى فضاء مفتوح وبقى النظام فى موضعه لان احدا لم يتقدم وملأ فراغ السلطة" بدا النظام مترددا وفاقدا للثقه ومرتبكا فى مواجهة الانتفاضة وبدأت الانشقاقات فى واجهة النظام منذ ليلة 17 يناير عند اعلان قرارات مجلس الشعب فأعلن اعضاء فى الحزب الحاكم اعتراضهم على القرارات الحكومية منتقدين محتواها والموافقه عليها قبل ان يتم عرضها على مجلس الشعب وذهب بعضهم حتى الى حد انتقاد السياسات العامة لنظام الحكم ككل وفى الليلة التالية يوم 18 يناير وتحت ضغوط تحركات العمال اضطر مجلس ادارة الاتحاد العام لنقابات مصر الى الاتفاق على بيان يدين القرارات معلنا انه يرفض رفضا باتا قرارات رفع الاسعار شكلا وموضوعا داعيا الى إلغائها ولهذا البيان اهميته ودلالته بما ان الاتحاد العام لنقابات مصر لم يكن نقابة عمالية بالمعنى الاصيل للمصطلح بقدر ما كان سلاح الحكومة بداخل الطبقة العاملة وخلال الاحداث كان يرأسه وزير العمل فى مجلس الوزراء الذى اصدر القرارات فى المقام الاول .
وفى الصعيد كان السادات يقضى اجازته فى استراحته الشتوية بأسوان ورغم ان التقارير الاولية اكدت استعادة الهدوء والاستقرار فقد رأى السادات بعينيه التظاهرات الغاضبة متوجهه الى مقر استراحته وعلى الفور "فر مغادرا تاركا كل شئ من خلفه حتى الاوراق الرسمية" (محمد حسين هيكل ـ خريف الغضب) وما ان غادر السادات اسوان بطائرته ترددت الشائعات بانه توجه الى السودان ساعيا للجوء فى كنف نظام النميرى وبعد ساعات عديدة حطت طائرة السادات فى مكان مجهول ويؤكد هيكل ان النظام كان فى حالة ارتباك بينما يطالب رئيس الوزراء من وزير الدفاع عبدالغنى الجمصى ان يدفع بقوات الجيش الى الشوارع وعلى الرغم من ذلك فإن "المشير الجمصى قد رفض فى بداية الامر فكرة مشاركة الجيش فى قمع التظاهرات" ونتيجة لذلك فإن قوات الشرطة لم يعد بمقدورها السيطرة على الشوارع واعلن الامن المركزى فى القاهرة: "لكل المحافظات: فلتعتمدوا على انفسكم ... ليس لدينا رجل شرطة واحد او سيارة اسعاف واحدة يمكننا مساعدتكم بها" لم يوافق وزير الدفاع على إرسال الجيش الى المدن الا بعد طلب شخصى من الرئيس السادات بنفسه وبعد إلغاء القرارات فى مساء 19 يناير .
بدأ الجيش التحرك مسبوقا بالعلانات المتواصله على الإذاعة والتليفزيون بان الرئيس اصدر اوامره بإلغاء توصيات المجموعة الاقتصادية التى قادت الى زيادة الاسعار والتزامن الواضح ما بين ذلك التصريح وارسال الجيش الى الشوارع يشير الى نقطة هامة فذلك التزامن يشير ولو ضمنيا الى نزولهم الى الشوارع لمواجهة المتظاهرين مع استمرار العمل بقرارات رفع الاسعار(هيكل ـ خريف الغضب) واشار احد تقارير صحيفة اجنبية الى: انهيار معنويات قوات الجيش المتمركزه حول القاهرة من اجل قمع التظاهرات الامر الذى دفع الحكومة الى سحب كتائب من تلك القوات المتمركزه على الخط الامامى مع اسرائيل .
- دور اليسار الشيوعى
كتب عبدالستار الطويلة احد المثقفين المصريين: "لقد فاجأتاحداث 18 و19 يناير جميع القوى السياسية حتى حزب الحكومة وبالتالى لم يكن بمقدور أية منظمة السيطرة على عفوية الحركة او توجيهها (السادات الذى عرفته) كما ان مراجعة الاحداث تؤكد هذه النتيجة وخاصة فيما يتعلق بالمنظمات الشيوعية ولا ينفى التحليل السابق حقيقة ان العديد من النشطاء والمتعاطفين من اليساريين قد شاركوا فى الانتفاضة وأشارت العديد من التقارير الى القيادات الماركسية من العمال والطلاب للتظاهرات والاضرابات كما ان المنشور الوحيد الذى صدر خلال الانتفاضة اصدره نادى الفكر الاشتراكى التقدمى وهو طليعة الطلاب الشيوعيين فى جامعة القاهرة وكان عنوان المنشور"لنتوحد ضد قرارات الحكومة" اعلن المنشور "اننا لا خيار امامنا الآن إلا ان نواصل اضراباتنا وتظاهراتنا بارادة حديدية مرغمين الحكومة على اختيار امر من اثنين لا ثالث لهما فإما ان تذعن وتلغى القرارات او ان تستقيل" علاوة على ذلك فإن الكثير من الشعارات التى هتف بها المتظاهرون خلال الانتفاضة كانت شعارات يسارية فى الاساس من قبيل "احنا الشعب مع العمال ضد تحالف رأس المال" و"يا حرامية الانفتاح .. الشعب جعان ومش مرتاح" و"يا امريكا لمى فلوسك .. بكره الشعب العربى يدوسك" الهتافات التى ارتفعت خلال الانتفاضة كانت هى نفسها الشعارات والهتافات التى يهتف بها الطلاب فى الجامعات خلال الاعوام السابقة وما رسخه سابقا اليسار من تقاليد تنظيمية وتحريضية كان له اثره فى تعبئة وحشد الجهود الى مدى بعيد .
إن توجه تظاهرات العمال والطلاب نحو مجلس الشعب كان إعاده مضخمة الحجم لتظاهرات عمال حلوان وطلاب جامعة القاهرة التى قادها اليسار عام 1976 والتى توجهت نحو المقصد نفسه علاوه على ذلك محاولات كسب تضامن الجنود من خلال الهتاف بشعارات تلعب على وتر قمع الجنود لابناء طبقتهم قد اطلقها عناصر اليسار إما بصورة مباشرة او غير مباشرة ولكن هذا لم يكن كل شئ فرغم وجود اعضاء من المنظمات اليسارية يتوزعون هنا وهناك فى محاولة للتدخل فى الحركة العفوية وتوجيهها فإن تأثيرهم كان ضعيفا والحقيقة ان الوجود التنظيمى لليسار المصرى فى الانتفاضة كان ضعيفا الى اقصى حد وهى حقيقة اقرت بها المنظمات نفسها فقد اعربت جريدة حزب العمل الشيوعى المصرى (الانتفاض) عن هذه المسألة بتاريخ 5 مارس 1977 فى انتقاد ذاتى لاداء الحزب فى الانتفاضة: "لم ينجح حزبنا فى ان يغرس بجذوره بكفاءه داخل الطبقات الشعبية ولذلك كان غائبا عن مسئوليات مهمة التنظيم والاستعداد لانتفاضة الشعب فى يومى 18 و19 يناير والتى كانت تمردا عنيفا ضد القرارات الاقتصادية للحكومة" ويذكر الجندى فى مذكراته: "على الرغم من عدم مشاركتى فى التظاهرات التى انطلقت يومى 18 و19 ينايرفقد كنت من بين المقبوض عليهم وكان هذا هو حال اغلب من تم القبض عليهم من النشطاء" كما يوكد احمد صادق سعد الرؤية السابقة قائلا: "من الجانب التنظيمى كانت الانتفاضة فى معظمها مستقلة عن اليسار (بإستثناء التظاهرات الاولية للطلاب والعمال) .
ان ازمة عجز اليسار عن الارتباط بالانتفتضة لم ترجع فقط الى الغياب التنظيمى ولكنها تعود كذلك الى التوجهات الايديولوجية التى منعته من استيعاب طبيعة الاحداث واظهر التدخل اليسارى درجة من الانتهازية حين استهدف تحقيق بعض المكاسب السياسية من خلال الترويج الذاتى اخفق ان يستوعب روح الانتفاضة والتى كانت "التخلص من نظام السادات ؟" لم يقم اليسار بدفع دعوة التخلص من النظام الى الامام رغم تصاعد موجة الاصطدام بالنظام والاحتاجات ضده فى دائر الطلاب والعمال خلال الاعوام السابقة اما بالنسبة لليسار الراديكالى ممثلا فى حزب العمال الشيوعى المصرى فقد اقتصر على المطالب الاصلاحية والتى كانت ادنى بكثير من امكانيات الانتفاضة .
اعلن احد قادة الحزب الشيوعى المصرى: "لم يرفع حزبنا شعار إسقاط النظام ولا دعا لذلك كان موقفنا من النظام واضحا كنا نكافح ضد الجناح المنتفع بداخل النظام .. كان نضالنا الاساسى يركز على تكوين الجبهة الاوسع من القوى الوطنية والتقدمية اذ يؤكد القائد فى الحزب الشيوعى المصرى فيما يعلق غالى شكرى على هذا التصريح بأن "لا يمكن للمرء إلا ان يندهش امام مثل هذا التحليل الذى تم اعلانه بعد انقضاء الاحداث" فيما اكد السكرتير العام للحزب الشيوعى المصرى آنذاك زكى مراد الرؤية السابقة فى حوار مع مجلة روزاليوسف انكر اية صله ما بين حزبه والاحداث وانكر قيادة الحزب للتظاهرات وقد ساق الحدث التالى كدليل: "يوم الجمعة 19 يناير قرأت عن مسيرة شعبية دعت اليها إحدى لجاننا فى المحافظات فأرسلنا اوامر مباشرة لمنع هذه المسيرة وذلك حتى لا يستغلها المتطفلون والمخربون وقد تم تنفيذ الاوامر فى واقع الامر كما ان هناك قراءه لموقف اليسار الشيوعى فى الانتفاضة تظهر ان المنظمات تميزت بتواجد ضعيف عند بداية الانتفاضة ثم حاولت المنظمات ان توجه الانتفاضة فى اتجاه الاحتجاج داخل إطار نظام السادات خلال 18 يناير واخيرا انسحبوا من الساحة حين وصلت الانتفاضة الى ذروتها وتخلو عنها تماما ثم خاضت الانتفاضة اخر معاركها بدون تلك المنظمات فى نهاية الامر" ويصيغ غالى شكرى الامر بمزيد من الوضوح: "لم يكن اليسار المنظم سواء من يعمل بشكل شرعى او غير شرعى على مستوى الحدث التاريخى فلقد بقى متأخرا عن الانتفاضة سواء قبل او بعد حدوثها .
- استنتاج
ان الاحداث التى جرت فى 18 و19 يناير عام 1977 كانت ذروة صراع اجتماعى متصاعد فى الاسفل قادته حركة الجماهير المصرية خلال الاعوام السابقة ولم يكن مجرد حالة انفجار من الشغب بلا سياق وعلى الرغم من ذلك فإن اليسار الشيوعى قد اخفق إخفاقا بائسا فى دفع الصراع للامام الى الاستيلاء على السلطة نتيجه لمشكلاته التنظيمية والايديولوجية .
سبقت الانتفاضة الحركة الاجتماعية الراديكالية من 1968 الى 1973 قادها الطلاب فى الاساس وتصدرت الطبقة العاملة صدارة الحركة فى مرحلة تاليه ومع ذلك فإن العمال ما ان ظهروا فى المشهد حتى حولوا الحركة الى مرحلة نضالية وراديكالية جديدة مال العمال للانطلاق فى حركتهم من التركيز على المسائل الاقتصادية المتصله بظروف العمل والاجور ومع تقدم وتوالى الاضرابات راحت المسائل السياسية تتخذ مكانها وفى حالة مصر فإن الهيمنة التامة للنظام الحاكم على عملية الانتاج والنقابات ساعدت فى اشعال النضال ضد النظام كان العمال يناضلون من اجل مسائل تتعلق بالخبز اليومى ومع ذلك فحين ناضلوا فقد تورطوا مباشرة فى صراع مع مديرين ومسئولين رسميين عينتهم الحكومة مما ساعد على دمج البعد الاقتصادى بالبعد السياسى .
ان التبرير الاساسى الذى روج له النظام وعملاؤه لتصوير الاحداث بوصفها شغب الغوغاء كانت مسألة العنف والتخريب ولكن لابد من ان يكون بعض الاحترازات هنا
- بدأ العنف على يد قوات الامن المركزى وكان عنف الجماهير مجرد رد فعل
- لم يكن العمال والطلاب وهم دعائم التظاهرات القوى الاجتماعية الاساسية التى قادت التخريب
- وقع التخريب بصورة اساسية على يد دخلاء ومتطفلين من امثال الشباب القصر وعناصر من العمالة الرثه ممن لا يشغلون موقعا داخل عملية الانتاج ويفتقرون الى التدريب المهنى بخلاف حالة الطبقة العاملة
- لم يتم اختيار اهداف التخريب اختيارا عشوائيا ففى الحقيقة لقد ععكست تلك الاهداف درجة عالية من الوعى الطبقى فإن اقسام الشرطة هى رموز القمع حيث يتعرض المواطنزن لتعامل وحشى والمؤسسات الحكومية ومقار الحزب الحاكم ما هى الا رموز النظام الذى ثار الناس عليه وكان من الطبيعى استهداف تلك المؤسسات
ويضيف غالى شكرى ما يلى: "استهدفت الحشود الملاهى اليلية والفنادق الكبرى واستراحات كبار المسئولين الرسميين بسبب كل ما ترمز اليه من ظلم اجتماعى واخلاقيات مزدوجة المعايير كما انهم استهدفوا الجمعيات الاستهلاكية التى تحتوى على طعامهم الذى يسلبه اصحاب السلطة والسماسرة كما هوجمت وسائل النقل العام من اتوبيسات وعربات ترام بما انها كانت غرفا للتعذيب اليومى لعموم المصريين حيث ينحشر الملايين كل يوم فى علب السردين تلك فى طريقهم من والى العمل كما تم استهداف السيارات الخاصة بصفتها رموز للفروق الطبقية" ويروى شكرى القصة التالية: "عقدت الجماهير محاكمة تهكمية للمثل الكوميدى فؤاد المهندس على كوبرى ابوالعلا ما بين حى الزمالك الارستقراطى وعشوائيات بولاق وكان سؤالهم الوحيد له هو "من اين لك هذا ؟" مشيرين الى السيارة البوش التى كان يقودها بينما لا يستطيعون هم العثور على موطئ قدم فى الاتوبيس فما شعر به المتظاهرون من اغتراب وابعاد عن الملكيات العامة والخاصة المحيطة بهم وصفه الصحفى صبرى ابوالمجد وصفا بليغا حين سأل احد الصبية الذين كانوا يخربون السيارات العابرة على الكوبرى "ليه بتحرق بلدك ؟" فأجابه الصبى "دى مش بلدى .. دى بلدهم هما" .
مواضيع ذات صله:
- وثائقى يساريون
- وثائقى السلام المر
- فيلم البرئ
- فيلم زوجة رجل مهم
- فيلم الهجامة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق