"لم تكن حرب 1914 مفروضة إطلاقا على الجماهير ولكن على العكس كانت كل الشعوب ترغب فيها"
عشية الحرب كان هناك ثلاثة أبناء عم عظماء يتقاسمون أقوى عروش أوروبا غليوم الثانى إمبراطور ألمانيا وجورج الخامس ملك إنجلترا وأسكتلندا وإمبراطور الهند ونيقولا الثانى قيصر كل روسيا وكان السلام يخيم على ربوع العالم بل ولم يكن الأمر يحتاج لجوازات سفر للإنتقال من بلد إلى آخر بإستثناء روسيا غير أن هذا السلام كان سابقا لأوانه وقد تكونت كتلتان عسكريتان تواجه كل منهما الآخرى فمن جهة كان هناك الحلف الثلاثى الذى يضم الإمبراطورية الألمانية وإمبراطورية النمسا والمجر ومملكة إيطاليا وقد تجدد هذا الحلف فى عام 1912 ومن جهة آخرى كان هناك الإتفاق الثلاثى الذى يتكون من حليفين مكملين كانت فرنسا محورهما وفى عام 1892 وقعت إتفاقية عسكرية تربط الإمبراطورية الفرنسية وإمبراطورية روسيا أما الوفاق الودى فكان يربط بين الإمبراطوريتان الإنجليزية والفرنسية .
وكان هناك نفس التفاهم على نفس المستوى بين روسيا وبريطانيا الذين وضعا حدا لعدائهما التقليدى ( فى الهند وفى الشرق الأقصى ) وكانت البحرية البريطانية تعاون نحو البحرية الألمانية ولم تكن التجارة البريطانية تنظر بعين الرضا لمنافسة المنتجات الألمانية فى كثير من أجزاء العالم وكانت فرنسا لا تزال تذكر الألزاس واللورين اللتين فقدتهما أما ألمانيا فكانت نادمة على أنها قبلت حصة ضئيلة من المستعمرات الأفريقية وفكر غليوم الثانى وهيئة الأركان الألمانية فى أن حرب البلقان تستطيع إعادة النظام فيها حتى إذا لزم الأمر القضاء على الخطر الفرنسى وكانت النمسا والمجر تشعران بالقلق نحو القومية الصربية التى كانت تحلم بإنشاء يوغوسلافيا وفى روسيا كان كثير من أولى الأمر فيها يرون أن الحرب ستؤدى إلى إتحاد مقدس يقلل من نشاط الروح الثورية .
لم يكن أحد يفكر فى حرب عالمية ولكن فى عمليات محلية كتلك التى أثارت البلقانيين بإثارة الصراع بين بلغاريا وتركيا ودول العصبة البلقانية بإيحاء من روسيا فى فترة أكتوبر 1912 إلى مايو 1913 والذى تلاه الصراع الذى أدى إلى المواجهة بين المنتصرين لتقاسم بقايا تركيا فى فترة يونية إلى أغسطس 1913 وفى يوم 28 يونية 1914 كانت بلدية سراييفو عاصمة البوسنة تستقبل الأرشيدوق فرانسوا فرديناند ولى عهد النمسا والمجر وكانت سراييفو إحدى ولايات الإمبراطورية وقد شاع فيها تذمر الأقليات القومية وفى ذلك اليوم أطلق أحد الإرهابيين ويدعى جافريلو برنزيب يساعده بعض أعوانه الرصاص على الأرشيدوق وقتله وقد قدرت هيئة أركان الحرب النمساوية أن اللحظة قد حانت لإعادة الصرب إلى صوابها وفى 5 يوليو أكد غليوم الثانى مساندته للنمسا وفى يوم 19 أصدر فرانسوا جوزيف إنذارا للصرب وكان طبيعيا أن تتدخل روسيا بوصفها ضامنه للولايات السلافية ولكن تقدير فيينا كان أنها وقد خرجت ضعيفة من حرب 1905 سوف تقنع بمجرد إحتجاج أفلاطونى ولم يكن تقدير برلين بنفس الدرجة من الثقة ولكن ماذا يهم لقد إستسلم الصرب بالإنذار يوم 23 يوليو ولكن برلين لم يصلها النص الكامل للإنذار إلا بعد ذلك بثلاثة أيام .
كان البند الرابع من الإنذار النمساوى ينص على إشتراك موظفين نمساويين للتحقيق فى حادث إغتيال الأرشيدوق فرانسوا فرديناند وبناء على نصيحة روسيا رفض الصرب هذا الجزء من الإنذار لأنه يمس سيادتها وبينما كان بوانكاريه رئيس الجمهورية الفرنسية فى زيارة لسان بطرسبرج وعد القيصر بمساندة فرنسا يوم 23 يوليو 1914 وفى يوم 25 أعلنت روسيا رسميا أنها ستساند الصرب وقامت النمسا بالتعبئة وفى يوم 28 يوليو هاجمت قوات النمسا والمجر الصرب وهنا بدأت الجيوش تتحرك وأخذت الأحلاف تؤثر على الموقف بإصرار وتأججت النيران فى أوروبا بأكملها وعبأت روسيا قواتها يوم 30 يوليو ووجهت إليها ألمانيا إنذارا يوم 31 يوليو وأعلنت عليها الحرب وفى أول أغسطس عبأت ألمانيا وفرنسا قواتهما وفى 3 أغسطس هاجمت ألمانيا لوكسمبرج وبلجيكا وفى يوم 4 أغسطس تدخلت بريطانيا بدورها فى الصراع إستنادا إلى معاهدة لندن عام 1839 التى تنص على حماية حياد بلجيكا وأنسحبت إيطاليا من التحالف الثلاثى وألتزمت الحياد أما تركيا فلأرتباطها مع ألمانيا بعلاقات تجارية وإتفاقية عسكرية فقد أعلنت الحرب على روسيا يوم 30 أغسطس 1914 .
وفيما بعد دخلت الحرب كل من إيطاليا إلى جانب الحلفاء فى 23 مايو 1915 وبلغاريا إلى جانب ألمانيا والنمسا يوم 5 أكتوبر 1915 ورومانيا إلى جانب روسيا يوم 17 أغسطس 1916 واليونان إلى جانب الحلفاء يوم 26 يونية 1917 وفى يوم 2 فبراير من نفس العام قطعت الولايات المتحدة الأمريكية علاقاتها الدبلوماسية مع ألمانيا ودخلت الحرب يوم 6 أبريل 1917 وأمتدت الحرب إلى أفريقيا مع الهجوم على المستعمرات الألمانية أما الصين واليابان فوقفتا إلى جانب الحلفاء .
- المعارك الأولى
كان الجميع في بداية الحرب يظنون أنها ستكون قصيرة و أنها كما كانوا يقولون وقتها وستكون حماسية و بهيجة فكانت خطة الجنرال مولتكا قائد جيوش غليوم الثاني تقدر "أن تدمير الجيش الفرنسي سيتم خلال ستة أسابيع" وهو الوقت اللازم لروسيا لإتمام تعبئة قواتها ثم يبدأ الهجوم المركز على روسيا وبعد أيام قليلة إنكمش الجيش البلجيكى وسقطت حصون لييج وفى الأردين البلجيكية تعرض الهجوم الفرنسى لفشل بعد فشل وأخترق الألمان الجبهة الفرنسية فى حين أخذ الجيش البريطانى يقاتل منسحبا وأخذ الجناح الأيمن للجيش الألمانى بقيادة فون كلوك يقترب من باريس ولكنه تجنبها وفضل دحر الجيش الفرنسى قبل أن يستولى عليها وقد قرر الجنرال جوفر قائد الجيش الفرنسى إيقاف تقدم الألمان وفى يوم 6 سبتمبر قام بشن هجوم مضاد على مواجهة طولها 180 كم بقوات كانت متعبة وقد ضعفت همتها بعد شهر من الإنسحاب المتواصل وأرسل الجنرال جالينى الحاكم العسكرى لباريس قوات تعزيزية مستخدما الطريقة التى إشتهرت بإسم "تاكسيات المارن" وفى الوسط كان الجنرال فوش يقاوم بعنف فى منطقة مستنقعات سان جوند ولكن الألمان أوقفوا الهجوم المضاد الفرنسى عند ضفاف نهر الاين وبدلا من الحرب القصيرة بدأت حرب طويلة تمركزت فى الخنادق وأوقفت الحرب المتحركة لسنوات طويلة وعين الجنرال فون فالكنهاين حل الجنرال فون مولتكه فى قيادة الجيوش الألمانية .
وبينما كانت الجبهة الغربية التى تمتد على خط يزيد عن 800 كم تتخلله الخنادق إبتداء من نوفمبر 1914 كانت القوات النمساوية المجرية تواجه المتاعب من الصربيين منذ بداية الحرب وفى 15 أغسطس دخل الجيش الروسى المعركة وتقدم فى بروسيا الشرقية وتلقى الجنرال الألمانى المنسحب فون هندنبرج تكليفا بالدفاع عن بروسيا الشرقية بمساعدة جنرال أبدى مقدرة فائقة فى لييج هو الجنرال لودندورف وكانت معركة تاننبرج 27 ـ 30 أغسطس 1914 إيذانا بهزيمة الروس.
- خنادق وغواصات
كانت الجيوش على الجبهة الغربية متمركزة فى الخنادق تتصل ببعضها بعضا بأنابيب وتحميها شبكات من الأسلاك الشائكة وكانت الهجمات تحصد الرجال بالآلاف فى سبيل كسب بضعة أمتار من الأرض غالبا ما تفقد ثانية وكانت المدفعية الألمانية الثقيلة تكتسح بقذائفها المواقع ولم تكن المدفعية الفرنسية الخفيفة أقل نشاطا وكان الألمان يستخدمون المدافع الرشاشة إستخداما مكثفا وهى المدافع التى أخترعت فى نهاية القرن 19 وفى كل بلد كانت صناعة الأسلحة قد عبأت جزءا كبيرا من السكان وظهر سلاح جديد هو الطيران الحربى وكان لا يزال يحبو ولكنه سرعان ما تطر مع إختراع المدافع الرشاشة الجوية وفى عام 1915 ظهرت الغازات الخانقة وقاذفات اللهب وفى عام 1916 ظهرت أولى السيارات المدرعة وكان إستخدامها لا يزال محدودا ولأول مرة فى عام 1917 قامت الطائرات والمناطيد الألمانية بالإغارة على المدن الواقعة خلف خطوط القتال بل إن أحد المدافع ذات المرمى البعيد كان يلقى بقذائفه على باريس وكانت أشهر المعارك هى معركة فردان التى بدأت فى 21 فبراير 1916 وأستمرت حتى ديسمبر وحصدت 275000 قتيل فى جانب الفرنسيين و240000 فى جانب المهاجمين الألمان ومن شهر يوليو حتى سبتمبر 1916 كانت معركة السوم وهى التى خاضتها قوات الجنرال فوش للتخفيف عن جبهة فردان لا تقل عن سابقتها ضحايا وعلى كلا الجبهتين إستقر الجنرالات ليبدأوا حربا إستنزافية .
ودارت معارك بحرية كبرى بين الأسطول الألمانى والأسطول الإنجليزى دون أن يتمكن هذا الأخير من السيطرة على الموقف وهنا بدأت حرب الغواصات تتدخل وهى الحرب التى شنها الألمان بهدف عزل بريطانيا من مصادر إمدادها وفى 7 مايو 1915 قامت غواصة ألمانية بقذف باخرة إنجليزية لوزيتانيا وغرق منها 1000 راكب من إجمالى الركاب البالغ عددهم 2000 وكان من بين الضحايا 124 مواطنا أمريكيا الأمر الذى أثار إنفعالا شديدا فى الولايات المتحدة ومهدت نفسيا لدخولها الحرب إلى جانب الحلفاء وفى نهاية الحرب كان متوسط السفن المغرقة قد وصل إلى 800.000 طن .
- الكارثة الروسية
بعد هزيمة تاننبرج تقهقر الروس مسافة 500 كم وخسروا 750000 رجل وكانت الروح المعنوية فى صفوف الجنود فى أدنى مستوياتها وأخذ الأهالى المدنيون يتهمون الجنرالات والإمبراطور بالتقصير وأخذت عناصر ثورية تعمل على إثارة الشعب الذى كان يرغب فى السلام وتوزيع الأراضى وفى فبراير 1917 قامت الثورة الروسية والديموقراطية التى أطاحت بالقيصر وإن واصلت الحرب إلى جانب الحلفاء ولكن الحماس كان قد فتر وقد ساعد إستمرار الحرب على الإنقلاب الذى قام به الحزب الإشتراكى بزعامة لينين فعزل الحكومة الجمهورية برئاسة كيرنسكى فى 25 أكتوبر 1917 وبدأ فى وضع أسس الإتحاد السوفييتى ثم بدأ التفاوض مع الألمان لعقد صلح فورى وقد وقعت معاهدة هذا الصلح فى بريست ليتوفسك يوم 3 مارس 1918 وبعد أن تخلصت ألمانيا من عبئ الجبهة الروسية أخذت ترسل التعزيزات إلى الجبهة الغربية حيث كان الجنرال بيتان بطل فردان يقود القوات الفرنسية فى حين عهد بالقيادة العامة لقوات الحلفاء للجنرال فوش .
وفى بداية الحرب ظل الأمريكيين بإختلاف أصولهم ملتزمين بالحياد ووافقت المصارف الكبرى على منح قروض ضخمة لبريطانيا وفرنسا فكان إنهزام مدينيها يعتبر كارثة مالية وزادت على ذلك العوامل العاطفية التى منعت الحكومة والشعب إلى مناصرة قضية الحلفاء وفى 6 إبريل 1917 دخلت الولايات المتحدة الحرب وإبتداء من شهر أغسطس كان 1200000 أمريكى فى طريقهم إلى الجبهة الغربية وقد عوض ذلك تعويضا كبيرا الكارثة الروسية وكانت الولايات المتحدة توفد قوات مستريحة وذهبا وبترولا وأسلحة فلقد أذنت ساعة إلحاق الهزيمة بالألمان وفى فرنسا كان لرجلين هما السياسى كليمنصو والعسكرى الجنرال فوش النصيب الأكبر فى النصر النهائى بمساعدة الجنرال برشنج ممثلا للولايات المتحدة وبالرغم من هجوم مضاد قام به الجنرال لودندورف وأحرز به نجاحا أوليا والذى كان يقترب من باريس فإن الجنرال مانجان بدأ فى 18 يوليو 1918 بهجوم عام جرى أولا على ضفاف نهر المارن وفى 11 نوفمبر 1918 وقع المفوضون الألمان إتفاقية الهدنة فى حين لجأ الإمبراطور غليوم الثانى إلى هولندا وهو قرار كان إيذانا بإعلان الجمهورية ثم كانت معاهدة فرساى فى 28 يونية 1919 وبعدها معاهدات ملحقة هى معاهدة سان جرمان فى 10 سبتمبر 1919 ومعاهدة نويى فى 27 نوفمبر 1919 ومعاهدة تربانون فى 4 يونية 1920 ومعاهدة سيفير فى 10 أغسطس 1920 ومعاهدة راباللو فى 12 نوفمبر 1920 ومعاهدة ريجا فى 18 مارس 1921 وأخيرا معاهدة لوزان فى 24 يوليو 1923 هى العوامل التى سجلت حالة السلم .
خرجت أوروبا من الحرب مهلهلة بعد أن فقدت ما يقرب من 9 ملايين قتيل و20 مليون جريح وهو ما يقرب من عشر تعداد اليد العاملة وتكلفت الحرب 30 % من ثروتها القومية بالنسبة لفرنسا و22 % بالنسبة لألمانيا وتوقفت أوروبا عن أن تكون القوة الكبرى المسيطرة على العالم لتحل محلها الولايات المتحدة فإن أوروبا عام 1919 كانت تختلف إختلافا كليا عن أوروبا عام 1914 .
- أوروبا جديدة
حلت جمهوريات محل ممالك ألمانيا والنمسا والمجر والإمبراطورية العثمانية وفقدت ألمانيا الألزاس واللورين وأعيدتا لفرنسا وشمال شلزويج وأعيدت للدنمارك ومناطق أوبين مالميدى أعطيت لبلجيكا وسليزيا أعطيت لبولندا التى بعثت من جديد والتى حصلت أيضا على جاليسيا النمساوية وكل المستعمرات الأفريقية التى وضعت تحت إنتداب مؤسسة جديدة هى الأمم المتحدة عصبة الأمم سابقا التى وزعتها على فرنسا وبريطانيا وكل أسطولها الذى إلتزمت بتسليمه لبريطانيا ولكنها رفضت التسليم وقامت بإغراقه وأنفصلت النمسا عن المجر وعلاوة على الأراضى التى نزلت عنها لدولة بولندا ونزلت أيضا عن ترنتين والتيرول لإيطاليا وكرواتيا وسلوفينيا إلى يوغوسلافيا الجديدة وبوهيميا ومورافيا وسلوفاكيا إلى دولة تشيكوسلوفاكيا الجديدة ودفعت روسيا الجزية لتخليها عن إلتزاماتها فى عام 1917 ونزلت عن بسارابيا لدولة رومانيا التى ضمت إليها أيضا دبروجيا البلغارية وأنفصلت فنلندا عن دول البلطيق وبصفة مؤقته جورجيا وأرمينيا وأوكرانيا .
وأقتطعت أجزاء من الإمبراطورية العثمانية التى تكونت منها عدة دول عربية ووضعت سوريا ولبنان بتوصية من عصبة الأمم تحت الإنتداب الفرنسى وفلسطين تحت الإنتداب الإنجليزى وبينما فقدت عصبة الأمم الدولة التى أسستها وهى الولايات المتحدة وذلك لأن المؤتمر الأمريكى رفض ضمان تعهدات الرئيس ويلسون ومنذ البداية كما هو معلوم فإن معاهدة فرساى تحمل فى طياتها نواة حرب قادمة فهى تفرض إلتزامات شديدة القسوة على ألمانيا التى دمرت كما أن ممر دانتزج الذى يفصل بروسيا الشرقية عن باقى البلاد لا يمكن إستمراره وهنا كان عريف نمساوى سبق له أن خدم فى الجيش الألمانى ويدعى أدولف هتلر كان يفكر وهو فى إحدى المستشفيات العسكرية فى كيف يصبح زعيما للقومية الإنتقامية فيصبح للعالم جولة ثانية مع الحرب العالمية الثانية .