الصحف





لم يكن أجدادنا يعلمون بأخبار الكوارث إلا بعد وقوعها بزمن طويل أما اليوم قمعرفتنا بها تحدث فوريا



لا شك فى أن الألواح السومرية هى أولى النصوص فى العالم وهى محفورة فى ألواح من الصلصال الطازج بإستخدام أعواد مبرية من البوص وكانت تترك فى العجينة اللينة آثارا أشبه بآثار المسامير الحادة ثم كانت تخبز فتكتسب صلابة الحجر مما ساعد على المحافظة عليها حتى اليوم وتعرف هذه الألواح اليوم بأنها أولى الكتابة المسمارية كانت تلك النصوص أحيانا ذات إلهام إقتصادى أو تشريعى وكثيرا ما كانت قصصا تاريخية أو دينية وفى سائر الأحوال كان الهدف هو الإعلام أو الإيضاح أو الرواية أو تثبيت قصة أو حدثا تاريخيا أو أسطورة أو شعرا وفى وقت كانت فيه مزاولة العقائد الصوفية ترتبط إرتباطا وثيقا بالحياة الأجتماعية وكانت تلك الألواح تكون الوسيلة الإخبارية وهى وإن لم تكن ذات جدة ساخنة إلا أنها كانت تعبيرا تسجيليا أمينا للعصر .
وفى مصر فى سنة 4000 قبل الميلاد كانت الألواح المصنوعة من حجر الشيست أو من العاج دليلا على وجود نفس الظاهرة وكانت تلك الألواح محفورة بحروف وجدت بعد ذلك فى الكتابة المصرية العادية الهيروغليفية وكانت دليلا على نشأة غيبية وبعض المقتطفات التى تشير إلى مجموعة الأرباب ذات الشكل الحيوانى التى قدر لها أن تنتشر فى كل أجزاء وادى النيل ومن المؤكد أن إنتشار إستخدام ورق البردى كان هو العامل فى أن أتخذ الإعلام الشكل الذى يمكن أن نسميه "بما قبل الصحافة" وإبتداء من ذلك الوقت أخذ الكتاب يستخدمون تلك الأوراق اللينة التى كانت من السهل أن ترسم فوقها الرموز الهيروغليفية بوساطة أعواد البوص المبرية وهكذا أمكن تداول أدب دينى وسياسى والمحافظة عليه هذا ولم يهمل إستخدام تلك الألواح نهائيا ومما يدعو للدهشة أن كل المراسلات الدبلوماسية ظلت تجرى زمنا طويلا بهذه الطريقة .
غير أنه من الواضح أن الصورة فى ذلك العصر الذى لم يكن يعرف القراءة والكتابة سوى بعض النخبة حافظت على مكانتها وقيمتها الإعلامية كما أن الحركات والإشارات أيضا التى كان يؤديها الرواة أو الكهنة كانت تعبر بأكثر مما تعبر عنه النصوص التى ظلت بعيدا عن متناول الكثيرين وهكذا أستمر لفترة طويلة طراز من الإعلام الشعبى ذو أشكال بسيطة ولكنها منوعة ظل يتطور جنبا إلى جنب مع الكتابة وكما نعرف كانت الشعوب الوسطى فى أوروبا الغربية عاجزة عن قراءة الإنجيل وكتب الصلوات التى كانت أساسا لحضارتهم ومع ذلك فقد كانت لديهم معرفة عميقة بالكتابة المقدسة التى كانوا يقرأونها عن مصدرين الصورة والكلمة فكانت الكاتدرائيات برسومها البارزة تمثل مناظر من العهد القديم والعهد الجديد وكذلك عظات الكهنة وكانت تلك المناظر تنقل إليهم المعلومات الأساسية والتى لم تكن تختلف طريقة إنتقالها عن تلك التى إستخدمتها الشعوب القديمة وحتى نهاية القرن الماضى كان البائع المتجول فى أوروبا يلعب دورا مزدوجا فى جمع ونشر المعلومات كانت شخصية هذا الوسيط شخصية خشنة كان بائعا متجولا وعرافا فى الوقت نفسه كان قبل كل شيئ نوعا من المتحدث الذى يعلق على الأخبار ويحمل فى وقت قصير جريدته الناطقة إلى المنازل وكما كانت العادة كان يجمع بين الصورة والكلمة كما كان يوزع صورا والتى لم تكن تحتاج لمعرفة القراءة والكتابة لإستخلاص ما تعبر عنه من موعظة بسيطة وجمال شامل .
كان كتاب المقالات فى نهاية القرن 19 أمثال جول مارى وأوجين سو وهم آخر سلالة رواة الزمن القديم يقدمون للجماهير أساطير متواضعة وملاحم كان بإستطاعة كل شخص أن يقرأ فيها مآسيه وآماله ومظاهر تعاسته وسعادته وأخيرا ظهر طبل القرية فى فرنسا بشيرا ونذيرا له مكانته بالنسبة للوقائع والأحداث العامة ومتحدثا عن قرارات مجلس المدينة وقد قدر له أن يتابع لفترة طويلة بعد الحرب العالمية الأولى مهمته الإعلامية .
إن الإعلام الجيد يجب أن يتضمن أربع صفات ضرورية هى 
أين ؟ 
متى ؟ 
كيف ؟ 
ولماذا ؟ 
ومن المحتمل أن تكون تقارير الدول بصرامتها هى المحك لمدى دقته وشكليته الرسمية فى الفترة التى خطت فيها الأساليب الصحفية أولى خطواتها والواقع أنه كان أول من صلح للإجابة عن التساؤلات السابق ذكرها غير أن نقل الأخبار أو التحقيقات الصحفية بالمعنى المفهوم كانت له سوابق أكثر عجبا .
  • مراسل فى حروب طروادة 

كثيرا ما يغيب عن ذاكرتنا أن هوميروس لم يحضر حرب طروادة فى القرن 12 قبل الميلاد إذ أن كل الدلائل تشير إلى أنه ألف كل أسفاره الحماسية العظيمة فى القرن التاسع وعلى ذلك فإن كتابة "الإلياذة" لم يكن عن شهادة شاهد عيان ومع ذلك فإن هذا التحديد لا يغير شيئا من وضع المشكلة فالواقع أن هناك العديد من الروايات التى تواترت عمن أشتركوا فى الحرب .
كانت تلك الروايات تتناقل طيلة ثلاثة قرون بالمشافهة إلى أن واتت أحد الرجال فكرة تثبيتها بالكتابة وعلى ذلك فإنه من المحتمل أن يكون هوميروس هو الصدى البعيد لواحد أو أكثر من "المخبرين" ومما لا شك فيه أن هذه الطريقة فى إعتبار مؤلف من أعظم المؤلفات الأدبية فى العالم لابد أن تقلل من أهميتها وتعرضنا لنسيان أن الأمر هنا يتعلق بقصيدة رائعة لا يمكن أن تنسى وإذا كانت "الإلياذة" فى حد ذاتها تعتبر تحقيقا فى نفس الوقت فإن أمرها لا يقتصر على ذلك فإن قصص حرب طروادة وكذلك حرب الأوديسا تكون كنوزا من الوثائق الثمينة عن التاريخ والحياة اليومية وأنها بهذه الصفة يمكن إعتبارها وثائق صحفية ولا شك فى أن الطابع الغنائى فيها كثيرا ما يطفى على موضوعيتها ولكن اليونايين القدماء أنفسهم كانوا يعتبرون تحفتى هوميروس الأساس الذى يقوم عليه وجودهم الإجتماعى والأخلاقى والدينى .
وبعد فترة طويلة جاء الكاتب اليونانى هيرودوت 484 ـ 420 قبل الميلاد وكان هو المرجع الحقيقى للصحافة بمعناها الفعلى كان قبل كل شيئ محققا عظيما قام برحلات هامة جمع خلالها كل الأحداث الأسطورية والواقعية لمصر وفارس لقد جمعها فى التاريخ على هيئة صورة فخمة بارزة للعالم القديم إننا نجد فيها الكثير من السمات التى تتصف بها الصحافة المثيرة كما نعرفها فالواقعة الحقيقية الصغيرة ترد جنبا إلى جنب مع القصة الدينية والرواية الرائعة إنها تزخر بالمبالغة ومهما يكن من أمر فبقدر ما كانت قابلة للتشكك وبقدر ما قد يتطرق إلى نصوصها من شك فإنها تكون الشاهد الوحيد على ماضى لولاها لإنطوى تحت ظلال النسيان التام وللتدليل على صحة ذلك يكفى أن نشير إلى التشكك الذى أثير فى أكتوبر 1957 عندما أطلق الإتحاد السوفييتى أول قمر صناعى يدور حول الأرض فبرغم أن محطات الإذاعة ظلت تصدر الصوت المنبعث من القمر سبوتنيك فقد ظل الشك قائما والواقع أنه ما من الصحفى أو المحقق كان قد سمح له بحضور عملية الإطلاق ثم زال هذا الشك أخيرا بعد أن نجح الأمريكيون بدورهم فى تحقيق نفس التجربة ولكنها فى هذه الحالة كانت أمام رجال الصحافة الذين دعوا إلى قاعدة كاب كانا فيرال .
  • عصر الجرائد 

لا شك فى أن الطريقة التى إخترعها جوتنبرج فى القرن 15 هى التى ساعدت على تطور الصحافة تدريجا غير أن تعميم إستخدام الطباعة بالحروف إقتضى ما لا يقل عن 150 عاما فلم تظهر أولى الكراسات المصورة والمطبوعة إلا فى بداية القرن 16 فضلا عن ذلك فإن هذه الكراسات التى كانت هى السلف للجرائد الكبرى لم تكن تظهر إلا فى المناسبات الهامة وفى بداية القرن 17 ظهر مفهوم الدوريات وظهر معه الربح المادى الذى كان يمكن أن يتحقق عن الإستغلال المنظم لإهتمام القارئ ومن هنا ظهرت المجلات الأسبوعية وإبتداء من عام 1605 نشر أبراهام فيرهوفن من أنفرس صحيفة "وبتليك تيجدنج" التى تعتبر أول دورية بمعنى الكلمة وبعد ذلك بخمس سنوات ظهرت فى سويسرا صحيفة "أوردينارى فوهن تزايتونج" وفى عام 1622 بدأ أهل لندن يقرأون صحيفة "كارانت أوف جنرال نيوز" وأخيرا أصدر ثيوفرات رينودوت جريدته "الجازيت" عام 1631 .
وبالرغم من ظهور هذه الصحف الأولى التى كانت تصور على هيئة كراسات صغيرة من أربع صفحات أو أكثر واصلت التقاويم مسيرتها التى بدأت فى نهاية القرن 16 كان قراؤها يكثرون فى الوسائط الريفية كما ينسب لرينودوت أنه أول من إبتكر نظام الإعلانات الصغيرة منذ أن نشر فى عام 1632 صحيفة مكتب العناوين ثم كان تعدد الصحف التى تملكها الحكومة من العوامل التى ساعدت على سرعة ظهور الصحف المعارضة لنظام الحكم ففى عهد الفروند أصدر الكتاب 4000 مقالة نقدية لمنافسة الجازيت التى كانت تدافع عن الملك وبداية بصحفنا التهكمية .
وإذا كانت الصحف سواء معارضة أو حكومية لم تكتسب منذ ذلك الوقت القوة التى تتميز بها فى عصرنا الحالى فذلك لأن الشعب كان من الأميين وظل إنتشار الأفكار وقفا على القليل من المتعلمين ومع ذلك فإن هؤلاء المتعلمين لم يبدوا كثيرا من الحماس إزاء وسيلة تعبيرية كانت تبدو لهم نوعا من الأدب الغث أما ديدرو وجان جاك روسو فلم يكونا يعيران الصحف إهتماما يذكر وإن كانت المقالات الرئيسية فى الصحف الثورية تنشر أفكارهما فى نهاية القرن 18 وكان رأى جان جاك روسو فى الصحافة أنها "غذاء للجهلاء وموردا للذين يريدون الحكم والكلام دون أن يقرأوا وهى عمل زائل لا قيمة له ولا فائدة" .
ومن الغريب أن الصحفيين لم يؤكدوا مكانتهم كأصحاب "السلطة الرابعة" المتغطرسين الأقوياء الذين يخشى بأسهم إلا فى إنجلترا حيث لم تتعرض الملكية فى أى وقت ما لتهديد جاد وفى فرنسا وحتى نهاية نظام الحكم القديم تمكن الصحفيون إلى حد ما من التكيف مع الرقابة الملكية بإهتمامهم بنشر أخبار الأحداث الفنية والإجتماعية المتعلقة بالحياة الباريسية أما الألمان فقد ظلوا فترة طويلة يعانون من إنقسام بلادهم إلى إمارات كان حكامها يفرضون رقابة شديدة كانت كثيرا ما تحد من إنتشار الصحف التى كان يمكن أن تكون صحفا ممتازة وفى الولايات المتحدة الأمريكية كانت أولى الصحف الأمريكية الصميمة هى "بنسلفانيا جازيت" التى صدرت أولى أعدادها فى عام 1728 قبل إعلان الإستقلال بثمانى وأربعين سنة ويجب أن نلاحظ أن كلا من هذه الصحيفة وذاك الإعلان كان يحمل توقيع بنيامين فرانكلين وبظهور المطبعة إنتقلت الجريدة من عهد ما قبل تاريخ الصحافة إلى بداية هذا التاريخ وكانت الثورة الصناعية هى التى أخذت بيدها على طريق هذا التاريخ بفضل إختراع الطباعة السطرية "لينوتيب" والطباعة الدوارة "الروتاتيف" .

مواضيع ذات صله:

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق