الثورة الصناعية


بدأت خطوط الثورة الصناعية تلوح فى القرن 18 وأخذت تنطلق قدما فى إنجلترا فى القرن 19
لكى تطغى على التقنية القديمة فى العالم
تغلبت على القرن 18 أو "قرن الأنوار" مجموعة من المفاهيم الأساسية تتعلق بمصير الإنسان وتنظيم المجتمع وقد تخلى الفكر الإنسانى الذى يتسم بثقة عمياء فى العقل البشرى وبتفاؤل مؤمن فى التقدم عن إعتقاداته فيما وراء الطبيعة أو الميتافيزيقا ليتخذ إتجاها نحو الإيجابية العلمية وقد صرح فولتير الذى كان المتحدث بلسان عصره بأن مستقبل الحضارة الحديثة يتوقف على الإختراعات الفنية وليس التأملات الفلسفية .
والواقع أنه إبتداء من الثلث الأخير من القرن 18 طرأ على أوروبا تغير عظيم يرجع إلى الإكتشافات العلمية والإختراعات الفنية وإلى إزدياد المتطلبات الإجتماعية وهى ظاهرة لم يسبق لها مثيل كان إنجلز أول من أشار إليها بأعتبارها "ثورة صناعية" إن هذا التحول الجذرى فى الحياة الإنسانية يخضع لنمو إقتصادى مذهل ولإزدهار رأس المال وبدلا من المجتمع الريفى الذى يعتمد فى معيشته أساسا على زرع الأرض وتربية المواشى إنتقلت الحياة إلى مجتمع المدينة حيث يتفوق النشاط الصناعى وتتهيأ له شبكة واسعة من عمليات التبادل على مستوى لم يعد محليا أو قوميا بل عالميا .
  • التقدم العلمى والثورة الفنية 
ترتبط الثورة الصناعية إرتباطا مباشرا بالتقدم العلمى وبصفة خاصة فى مجال الفيزياء كما ترتبط بتطور التقنية الحديثة وبإستخدام موارد جديدة للطاقة ومنها الفحم والبخار وعند دراسة الكهرباء سنقابل العديد من الإكتشافات ففى عام 1745 نجح أستاذ هولندى فى بناء أول مكثف هو "وعاء ليد" وأخترع الأمريكى بينجامين فرانكلين مانعة الصواعق فى حين صنع الإيطالى فولتا فى عام 1800 أول بطارية كهربية أما فن التقنية فقد قطع خطوات سريعة فى مجال النسيج والصناعات المعدنية ففى عام 1733 إخترع جون كاى "المكوك الطائر" الذى يوضع على عجل فوق مزلقة وتحركه حبال وروافع وأدى إلى زيادة السرعة فى صناعة النسيج ولإمكان نسج قطع أعرض ففى عام 1764 تحولت صناعة الغزل إلى الآلية بفضل دولاب الغزل الذى إخترعه النساج هيرجريفز وهو عبارة عن دولاب ذى عدة مغازل ينتج خيوطا بكمية وافرة ونوعية عالية .
وحل إستخدام الكوك أو الفحم الحجرى محل فحم الخشب الذى حدد إستخدامه خوفا من إستهلاك الغابات وفى عام 1783 أكتشفت طريقة تطويع الحديد وذلك بمزج الحديد المنصهر بوساطة قضبان معدنية وأدى ذلك إلى تحسين صناعة الحديد بدرجة كبيرة وقد أستخدمت أول أفران التطويع فى أوروبا فى أوائل القرن 19 غير أن أهم الإختراعات فى ذلك العصر كان إختراع الآله البخارية التى أقتضتها صناعة التعدين وقد أبتكرت فى إنجلترا لنزع مياه المناجم بواسطة طلمبات بخارية ومن المحاولات التى قام بها دينيس بابن وسافرى ونيوكومن تمكن جيمس وات من إنتاج أول آله بخارية وكان البخار يولد فى غلاية ثم يوجه بطريقة الصمامات بالتوالى إلى كل من أوجه كباس تتولد عن تحركه حركة دائرية بوساطة ذراع وأسطوانة وقد أدى هذا الإختراع إلى فتح مجال واسع من التطبيقات العلمية العديدة مثل القاطرة البخارية والسفن البخارية أمدت الإنسان بقوة محركة تفوق كثيرا قوة الشد البشرى أو قوة طواحين الهواء والماء إنها أدت إلى تطور الصناعة وفى نهاية القرن تجمعت كل العناصر الفنية لإشعال ثورة صناعية وإن كانت تلك الثورة لم تبدأ بداية فعلية إلا فى القرن 19 .
  • إنتاج بالجملة ودورات جديدة 
كان أول إستخدام لكل هذه الإبتكارات الفنية الجديدة فى إنجلترا فلقد أتمت المرحلة الأولى من مراحل الثورة مهمتها إستنادا إلى إستخدام الفحم والبخار وفى حوالى عام 1870 بدأت المرحلة الثانية مع بدء إستخدام الطاقة الكهربية والبترول وكان إنطلاق الثورة الصناعية من إنجلترا ولم تلبث أن عمت شمال غرب أوروبا ثم الولايات المتحدة الأمريكية ومنذ ذلك الحين أخذ الإنتاج الصناعى يتزايد تساعده التحسينات التى أدخلت على طرق المواصلات فكان البخار المتولد من إحتراق الفحم مصدرا للطاقة اللازمة لتحويل الحديد الخام إلى سبائك وقفز إنتاجه فى إنجلترا فيما بين عامى 1720 و1840 من 25.000 طن إلى 347.000 طن وفى عام 1860 بلغ 6 ملايين طن وسبك الحديد يساعد على صناعة أدوات وآلات أشد متانه وأكثر ملاءمة للإحتياجات الجديدة من تلك التى كانت تصنع من الحديد كما أن البخار ساعد على تنشيط صناعة النسيج وأصبحت إنجلترا أعظم منتج للمنسوجات فى العالم .
إن زيادة الإنتاج تتطلب تحسين القنوات والطرق غير أن تطور القضبان الحديدية أحدث ثورة فى مجال النقل وفى عام 1830 أفتتح فى إنجلترا أول خط سكة حديدية كما تصوره الإنجليزى ج . ستيفنسون بين ليفربول ومانشستر وتمت التجربة يوم أول أكتوبر 1829 فوق هضبة رينكيل التى لا تبعد كثيرا عن ليفربول وتتميز السكة الحديدية بسرعة النقل وأنتظامه بالنسبة للمواد الخام وبصفة خاصة للمنتجات الثقيلة لمسافات بعيدة وقد أدى هذا الإختراع إلى تقليل مفهوم المسافة وساعد على زيادة التجارة الدولية ومع ذلك فقد كان إختراع القضبان الحديدية مثار إختلافات فى الرأى ففى عام 1836 كتب المدير الفرنسى للطرق والكبارى يقول "لقد أصبح إنتقال الأشخاص ضرورة من ضرورات العصر" هذا فى حين نادى أحد النواب المحافظين محذرا بقوله "هل مما يفيد الأخلاق أن يكثر الإنسان من مغادرة منزله" .
كما زاد تبادل المعلومات لقد كانت القطارات والبواخر تنقل كميات هائلة من البريد ثم عمم إستخدام طوابع البريد الذى بدأ فى فرنسا عام 1848 وأنتقل إلى باقى بلدان أوروبا ومد أول كابل عبر الأطلنطى فى عام 1866 وحسن جوسن فى عام 1844 المبرق الكهربى مما ساعد على تصغير العالم وكان ذلك هو العصر الذى كتب فيه جول فيرن "حول العالم فى 80 يوما" .
  • التعداد البشرى والتكاثف السكانى 
إستمر التزايد السكانى الذى بدأ فى القرن 18 جنبا إلى جنب مع الثورة الصناعية فلقد زاد تعداد سكان أوروبا بسرعة تبلغ ضعف تزايد سكان العالم وقفز من 187 مليون نسمة فى عام 1800 إلى أكثر من 400 مليون نسمة فى عام 1900 وأزدادت الهجرات الكبيرة من الريف فى جميع البلدان التى تأثرت بالتقدم الصناعى فالفلاحون الفقراء كانوا يهاجرون إلى المدن الكبيرة تجتذبهم إليها عروض العمل وفى حوالى عام 1860 كانت لندن أكبر مدن العالم حيث بلغ تعداد سكانها 2.600.000 نسمة أما باريس فكان تعدادها مليونين ونيويورك 1.175.000 وأخذت المصانع التى تستخدم كميات كبيرة من المواد الخام تزدحم بالقرب من مناجم الفحم على القنوات وهكذا نشأت الأقاليم السوداء فى بريطانيا أولا فيما بين ليفربول وجلاسجو ثم فى بلجيكا وألمانيا فى حوض نهر الرور ثم فى فرنسا ويصف الكاتب الإنجليزى تشارلز ديكنز منظرا لمدينة صناعية فيقول "كانت مدينة آلات ومداخن عالية تتصاعد منها دون توقف أو راحة وأعمدة من الدخان تتلوى كالثعابين وكان للمدينة قناة أسود لون مائها ونهر تجرى مياهه وقد أصطبغت بلون أرجوانى منتن" .
  • التكاثف المالى 
إن أموال عدد من الأفراد لا تكفى لتمويل منشآت المناجم أو المصانع أو السكك الحديدية لبهاظة تكاليفها وقد أدى ذلك إلى إنشاء شركات المساهمة التى تتكون رؤوس أموالها من مجموعات من المدخرات الفردية مقابل أسهم يستطيع المدخرون شراءها أو بيعها فى البورصة وأنشئت فى كل البلاد الصناعية بنوك كبيرة مث "الشركة العامة" فى فرنسا التى أفتتحت فى عام 1864 لتتلقى مدخرات الأفراد والجماعات ولتسهيل المبادلات النقدية ومع تزايد إستغلال الطاقى البشرية فى العمل وأختلال التوازن بين الأسعار والأجور ونشأة إقتصاد يهدف إلى الربح أخذت رؤوس الأموال تتضخم وتتزايد بإستمرار مما نتج عنه تركيز بالغ فى رؤوس الأموال وأدى إلى تملك الطبقة المسيطرة على وسائل الإنتاج فلقد بدأت الرأسمالية تزاول نشاطها بحرية .
  • مجتمع طبقى 
إمتد التغيير إلى مجتمعات المدن فقد أضفى النمو الصناعى أهمية جديدة على رجال المال وعلى أصحاب المصانع الذين يكونون الطبقة الرأسمالية وبعد عام 1850 وفيما بين الرأسمالية الكبرى وطبقة العمال تكونت طبقة برجوازية متوسطة نابعة من القطاع الثالث والقائم على المعرفة والنقود الذى يضفى على المجتمعات الصناعية طابعا أكثر تعقيدا مما كانت عليه مجتمعات العصور السابقة .
إن الصناعة الجديدة فى حاجة إلى عدد كبير من الأيدى العاملة دون إشتراط للمؤهلات وأصبحت الظروف المعيشية للطبقة العاملة ظروفا صعبة وكان يوم العمل يستمر لمدة من 15 إلى 18 ساعة وكان الأطفال يستخدمون إبتداء من سن الخامسة وكان العامل الأجير يسكن فى كوخ حقير أو عشه من الصفيح وتهدده البطالة فى كل وقت .
  • الصراع العمالى 
ولكى يتمكن العمال من تحسين ظروف العمل والأجور أخذوا يتحدون فى نقابات مهنية وكثير منهم إجتذبتهم المبادئ الإشتراكية ومن بين أصحاب هذه النظريات لويس بلان 1811 ـ 1882 وبرودون 1809 ـ 1865 وكارل ماركس 1818 ـ 1883 وشيئا فشيئا بدأ تطور التشريعات الخاصة بوجود النقابات وحق الإضراب وعدد ساعات العمل إلى غير ذلك وفى النصف الثانى من القرن 20 إقترح المهندس الأمريكى فريدريك تيلور 1856 ـ 1915 أسلوبا علميا لتنظيم العمل لاقى أستحسانا كبيرا كان تيلور يحاول ربط أجر العامل بظروف الإنتاج الكبير ويدعو بصفة خاصة إلى ربط الأجر بالإنتاج .
إن هذه الصورة للثورة الصناعية ما تزال قائمة حتى يومنا هذا فإن التوسع المذهل فى الوسائل الفنية يسمح لنا بأن نتحدث عن ثورة صناعية جديدة فى القرن 21 ويصف لويس دى بروجلى المولود فى عام 1892 والحائز على جائزة نوبل فى العلوم عام 1929 المغامرة الكبرى للعصر الصناعى بهذه الكلمات "إن الميكانيكا والفيزياء مثلهما كمثل الكهرباء والحرارة والكيمياء قد أتاحا الكثير من التطبيقات كالإختراعات التى غيرت الظروف المعيشية للإنسان والصناعات التى قطعت مرحلة هائلة فى طريق التقدم والحركة التى بدأت فى هذا الإتجاه ما زالت تتزايد فالتقدم فى العلوم وتطبيقاته ينمو ويتضخم بإستمرار وبسرعة تشبه السرعة التى تتضخم بها كرة من الثلج وهى تنحدر على سفح الجبل" .