يحتفظ مذهب ماكيافيللى وهو الفلسفة الإيجابية بواقعيته
ولقد أثارت نظرياته التى لم تلق التقدير مجادلات عنيفه على مر القرون
هناك أسطورة تصاحب إسم نيكولا ماكيافيللى ذلك السياسى الإيطالى الذى عاش فى مدينة فلورنسا فى أواخر القرن 15 ومطلع القرن 16 وقد أشتقت من إسمه كلمتان هما المكيافيلية بمعنى الخداع السياسى والمكيافيللى أى من يعتنق مذهب ماكيافيللى فى السياسة وهما ما أمكن تقريبهما من معنى السادية والسادى إلا أنه فيما عدا شهرتها المبالغ فيها فإن عقيدته تتفق مع مطالب عصر معين هو عصر النهضة فى بلاد معينة هى إيطاليا ومدينة معينة هى فلورنسا ومع ذلك فإنها تخرج عن نطاق الزمن المحدود الذى عاش فيه لكى تكتسب هذه القيمة العالمية التى أتاحت لها أن تعبر كل هذه القرون .
- داخل الفوضى والعنف
لقد كانت بالغة الإضطراب تلك السنوات التى عاش فيها نيكولا ماكيافيللى الذى ولد عام 1469 بينما كان يتولى الحكم فى فلورنسا آل ميديتشى وكان ماكيافيللى دائم المحاولة فى مدينته للإشتراك فى الحكومة بيد أنه عندما توفى يوم 22 يونيه 1527 كان قد أستبعد لتوه عن المؤسسات الجمهورية .
كانت أزمة أوروبا قد وجدت فى إيطاليا وخاصة فى روما وميلانو وفلورنسا والبندقية النفوس مهيأه لإضطرابات كبرى فلقد كان آل ميديتشى وآل بورجيا الذين كانوا متعطشين للسلطة والمجد يحكمون بوصفهم سادة مطلقين ولكنهم لكى يظلوا فى الحكم كان عليهم أن يناضلوا وأن يلجأو إلى الجيوش الأجنبية وقد تولى كل من كوزمو وبعده لورنتزو دى ميديتشى الملك فى فلورنسا حتى عام 1492 وجاء الفرنسيون فخلصوا المدينة غير أنها وقعت لمدة ثلاث سنوات تحت سيطرة القس سافونارولى وبعد أن قبل أهل المدينة حياة الفقر التى فرضها عليهم عادوا وبعثوا به إلى المحرقة وطالبوا بقيام جمهورية جديدة .
وفى يوم 18 يونية 1498 ظهر ماكيافيللى على المسرح السياسى وعهد إليه بمنصب مساعد وهو منصب السكرتير فى الديوان الثانى لفلورنسا وسافر إلى فرنسا وإلى ألمانيا وأكتسب تجربة من الحياة العامة وقد لاحظ أن الجيوش الوطنية لها فعالية خاصة ومنظمة تنظيما جيدا فقرر أن ينشئ لدى عودته إلى فلورنسا قوة للميليشيا مدربة تدريبا كافيا حتى لا يستند رئيس الدولة على المرتزقة والأجانب وفى عام 1502 ظهر فى إقليم رومازل الرجل الذى أشعل كل ما فى داخل ماكيافيللى من مفاهيم وهو تشيزارى بورجيا النموذج الشهير لكتابه الصغير "الأمير" وفى عام 1512 تغير نظام الحكم مرة آخرى وأضطر ماكيافيللى إلى الإنسحاب إلى بيته الريفى وأخذ يحاول طوال 14 عاما أن يعثر على وسيلة يروق بها فى عيون آل ميديتشى .
- إعتكاف مثمر
كان هذا التوقف المؤقت الذى طال هو أساس نشأة الإتجاه الأدبى لدى ماكيافيللى وبوصفه مؤرخا وسياسيا وروائيا فقد عكف على تأليف عدد من الكتب أشهرها "مقالات عن السنوات العشر الأولى فى حياة تيت ليف" و"تاريخ فلورنسا" و"بحث فى فن الحرب" ثم بطبيعة الحال كتاب "الأمير" الذى عرف كذلك بعنوان "الإمارات" ويضاف إلى هذه المؤلفات كوميديا خفيفة هى "اللقاح" وقصة "حياة كاستروتشيو كاستراكانى" على أنه لم يكن هناك شيئ يعزيه عن فقدانه دوره فى الحكومة وقد بذل كل جهده لإستعادة حظوته لدى الكبار وقد أهدى مؤلفه الصغير "الأمير" إلى جوليان دى ميديتشى وجاء فى هذا الإهداء قوله "إننى أستهلك نفسى فى هذه الوحدة ولا أستطيع أن أبقى هكذا طويلا بغير أن أسقط فى البؤس والإحتقار لذلك كنت أرجو لو أن السادة آل ميديتشى وافقوا على إعادتى إلى العمل حتى ولو كان ذلك أن أدفع أمامى الصخر ... ولو أن هذا الكتاب قد قرئ لرؤى فيه أننى خلال الأعوام 15 التى أتيح لى فيها أن أدرس فن الحكم لم أضع وقتى فى النوم أو فى اللعب وأن على كل إنسان أن يكون فى خدمة رجل عرف كيف يكتسب على حساب الآخرين تجارب كثيرة" .
- إختلاف الإمارات
وعلى حين أن كتاب "المقاولات" يتناول تعريف طريقة إدارة الجمهوريات فإن كتاب "الأمير" ينشد البحث عن "الماهية الجوهرية للإمارات وكم نوعا يوجد منها وكيف يمكن غزوها وكيف يمكن الإختفاظ بها والأسباب التى تؤدى إلى فقدانها" وهو فى الفصل الأول يتحدث عن إنتقال وراثة الحكم ويتعين على الأمير فى هذه الحالة تركيز جهوده على الحفاظ على دولته ومن ناحية آخرى نراه يتحدث عن حل ثانى وهو الذى يحاول فيه أحد الرجال الحصول على أصوات الشعب بغير أن يكون مستندا إلى المبدأ التقليدى وشخصية الأمير وحدها كفيلة بالتغلب على العقبات والحصول على الملك والإحتفاظ به على أن ماكيافيللى لم يحاول قط التشكيك فى شرعية الحكم فهو ينقد الأخطاء السياسية التى أرتكبها رؤساء الدولة بغير أن يدخل فى حكمه أية مفاهيم أخلاقية .
- فيما وراء الثروة
إن صفات الأمير مفصلة بكل دقة إذ أن هذه الصفات هى أهم الأسس المؤدية إلى النجاح وللثروة الكبيرة أو الصغيرة تأثيرها على مجرى الأحداث على نحو ما ولكن رئيس الدولة لا يجب أن يلقى بنفسه بمحض إرادته فى مصير يقوم على النزوات وصفاته الخاصة تسهم بصورة بالغة الأهمية فى أن تضمن له النجاح فى مهمته أما الفضيلة وهى الشيئ العزيز على الرجال فى عصر النهضة فإنها تمثل فى نفس الوقت القوة البدنية والقيمة الثقافية والشجاعة التى يتميز بها الصفوة من الرجال ولقد إستطاع تشيزارى بورجيا بفضل هذه الفضيلة أن يصل إلى الحكم ولكنه أضطر إلى أن ينحنى أمام المصائب الكثيرة التى لم يحسب حسابها ومن المتناقضات أن القسوة من بين الصفات الأساسية التى يجب أن يتحلى بها الأمير وللقضاء على الطامعين فى المجد أستخدم الأمير العنف فى بداية ملكه أما بعد ذلك فإن الطيبة التى ينشرها فى بطء حتى يشعر بها الناس جيدا هى التى يحافظ بها الرئيس على سلطانه .
- الغاية تبرر الواسطة
ويسوق ماكيافيللى كل هذه الحجج فى تحليل دقيق للسلوك الإنسانى وعلى الأمير عندما يحصل على السلطة أن يهين عددا كبيرا من الأشخاص وبصفة خاصة الأقوياء من الرجال ذلك أن الرغبة فى الحكم لا تطرح أية مشكلة من النوع الأخلاقى فهى سبب كافى يبرر كافة الأساليب فإن القوة هى التى تحكم الجانب الأكبر من الأعمال الإنسانية ويكفى الرجوع إلى التاريخ للتأكد من ذلك إلا أنه على الأمير أن يعرف كيف يخفى الدوافع الحقيقية للأعمال التى يقوم بها أما أصوات الرجال فهى تتجه دائما نحو الذين يمثلون الطيبة والعدل والأخلاق والدين ويكفى الأمير أن يتظاهر بأنه يجمع هذه الصفات لكى يكتسب ثقة الشعب وقد رسم ماكيافيللى صورة خاصة للأمير هى خلاصة ما فى إثنين من الحيوانات هما الأسد والثعلب .
لقد حاول ماكيافيللى وهو الفيلسوف الواقعى كما حاول كبار رجال عصره وعلى غرار ما فعل الأقدمون الكشف عن الحقيقة ولم يعرف مذهبه المجد الذى حصل عليه فيما بعد فقد أسهم القرنان 17 و18 فى الإساءة إلى روحه ومقارنته بمذهب الشيطان وفى عام 1924 حاول موسولينى الربط بين الفاشية والمكيافيلية فكتب فى مؤلفه "مقدمة عن ماكيافيللى" يقول "إننى أؤكد أن مذهب ماكيافيللى يعيش حيا اليوم أكثر مما كان حيا منذ أربعة قرون" غير أن أجمل مديح ناله ماكيافيللى هو ذلك الذى وجهه إليه عن غير قصد فردريك الثانى الذى هاجمه فى البداية فى كتابه "ضد الميكيافيلية" ثم طبق كل مبادئه عندما أصبح ملكا ولقد تمنى ماكيافيللى أن يرى إيطاليا التى كانت مجزئه فى ذلك الوقت إلى مقاطعات ومدن وقد إتحدت نهائيا وقد أجاب على هذه الأمنية كل من كافور وغاريبالدى بعد ذلك بثلاثة قرون ونصف بقولهما "لا يتعين أن تفوت هذه الفرصة إذ يجب أن ترى إيطاليا أخيرا الرجل الذى سيكون مخلصا لها ولا نعرف مدى الحب الذى سوف يستقبل به فى كافة المقاطعات التى تحملت الغزو الأجنبى ولا بأى تعطش للثأر ولا بأى إيمان أو أى شفقة أو أية دموع" .