الإمبراطوريتان الإنجليزية والفرنسية

قال سيد سانتياجو هنرى مونترلان
لقد أنشئت المستعمرات لكى تضيع بعد ذلك إنها تقوم وصليب الموت فوق جبينها
فى القرن 19 أخذت كل من فرنسا وإنجلترا وكذلك البرتغال وبلجيكا وألمانيا وأسبانيا وإيطاليا تقسم فيما بينها مناطق شاسعة من أفريقيا وآسيا إلا أنه لم يكد يمضى قرن من الزمان حتى كانت هذه المستعمرات أو المحميات أو مناطق النفوذ فيما عدا بعض الإستثناءات النادرة تختفى على وجه السرعة .
وفيما يتعلق بفرنسوا الأول الذى شجع على رحيل جاك كارتييه نحو الغرب عام 1534 فإن الدوافع كانت ولا شك سياسية ذلك أن ملك فرنسا لم يكن ينوى أن يترك كلا من أسبانيا والبرتغال تنفردان بفتوحاتهما عبر المحيط إلى جانب أنه كان يبغى العثور على كميات هائلة من الذهب والثروات الآخرى ولقد صادف جاك كارتييه فى كندا عام 1542 خيبات أمل ثقيلة فى هذا الصدد إلا أنه فتح الطريق أمام حملات الإستطلاع المقبلة فى أمريكا .
وبعد سنوات عديدة من النسيان عاود "حلم الإستعمار" هنرى الرابع الذى كلف صامويل دى شامبلان العثور على طريق للذهاب إلى بلاد الصين والهند ولم تأت هذه الحملة بالنتيجة المرجوة وفشلت تماما فى كويبيك حيث سارعت بإنشاء "فرنسا الجديدة" وفى الصراع الذى خاضه ريشيليو ضد إنجلترا وأسبانيا عمل على تشجيع قيام حملات إلى جزر الأنتيل والمارتبيك وجواديلوب وكذلك إلى الساحل الجزائرى "حصن فرنسا" وأنشئت كذلك "مستوطنات" فى السنغال ومدغشقر ولما جاء كولبير عقب ذلك كلف كافالييه دى لاسال توسيع حدود كندا التى ضمت إليها لويزيانا وفى عام 1683 عندما توفى كولبير كانت الإمبراطورية الفرنسية تتكون من أراضى أمريكية فيما عدا الأجزاء الخمسة فى الهند ومضى لويس الرابع عشر فى سياسة رئيس وزرائه ولكنه فعل ذلك هذه المرة فى آسيا حيث دخلت القوات الفرنسية باجكوك مقدمة لإستعمار الهند الصينية حيث ثارت عليه القوى الوطنية معلنه حركات التحرير منذ القرن العشرين .
وقد وصلت الإمبراطورية الفرنسية إلى أقصى ما وصلت إليه تحت حكم لويس الخامس عشر إذ بلغت مساحتها ما بين 10 ـ 13 مليون كيلو متر مربع غير أنه فى عام 1579 شهدت حرب السنوات السبع سقوط كويبيك وتفكك الأقاليم المحتلة لصالح أسبانيا وإنجلترا وبقص أطراف المستعمرات الفرنسية إذا بها تنخفض مساحتها إلى 40.000 كيلو متر مربع فحسب ثم أكملت وبعدها الإمبراطورية هذا الإنهيار .
  • من التوسع إلى السقوط 
وفى الفترة فيما بين عامى 1830 ـ 1962 إنتقل جزء كبير من الأراضى ليدخل تحت السيطرة الفرنسية وكان هدف إستئناف الإستعمار فى عام 1830 قبل قيام ثورة أورليانز بقليل هو تدعيم حكومة بولينياك ففى عام 1847 هزم الجنرال بوجيود الأمير عبدالقادر الكبير فى الجزائر كما تمكن فيدهرب فى أفريقيا السوداء من سحق المورة والطوكولور فى السنغال وأرسل حملة إلى النيجر وقد ضمت كلدونيا الجديدة تحت حكم نابليون الثالث عام 1853 وفى عام 1858 ومن أجل حماية الإرساليات تم إحتلال أنام وسواحل الصين وأصبح للإمبراطورية الفرنسية عند ذلك قواعد صلبة وباتت تسيطر على أقاليم واسعة ذات أنظمة متباينة وحتى الحرب العالمية الأولى أستمرت الإنطلاقة الإستعمارية فى طريقها بالرغم من معارضة الإشتراكيين الملموسة التى نددت بنظام الجنود المأجورة وبأعمال العنف التى ترتكب فى أراضى المستعمرات ومع ذلك فإن الجزائر والمغرب سادهما الهدوء على حين سارعت الإستثمارات الخاصة والهجرة الأوروبية تتزايد عليهما تدريجيا وبعد هذه الحرب العالمية فقط وحوالى عام 1930 وفى ظل الأزمة الإقتصادية العالمية بدأت المستعمرات تستيقظ ولو أن الثورات المناهضة للإستعمار لم تنفجر بكامل قوتها إلا بعد الحرب العالمية الثانية فى عام 1946 ففى ذلك العام بالذات دخل الفيتناميون الحرب مطالبين بإستقلالهم الكامل وفى الجزائر أخذت جبهة التحرير الوطنية تناضل منذ عام 1954 ضد القوات الفرنسية وبعد وقوع مآس كثيرة إستطاعت الجزائر أن تعلن بنفسها إستقلالها فى أول يوليو 1962 فى إستفتاء ساحق .
  • الكومنولث 
وخلافا لما كان عليه الإستعمار الفرنسى فإن الإستعمار البريطانى كان يتسم بأنه تجارى ودينى أكثر منه إستعمارا عسكريا ففى القرن 18 أى فى عام 1757 تأسست الإمبراطورية الهندية وعين فيها حاكم عام وأنشئ مجلس للوزراء ومحكمة عليا لتولى إدارتها ومن هذه الفترة يبدأ التأريخ لإستخدام طريق ثلاثى يمثل نظاما سوف يطلق عليه إسم "الإستعمار التجارى" وفيه تنطلق السفن من إنجلترا محملة بالخردوات والخمور والمنسوجات وتتوقف فى غينيا حيث تبادل الحلى الزجاجية بخشب الأبنوس الثمين والعبيد الذين تستبدلهم مرة آخرى عند سواحل الهند الغربية وتأخذ بدلا منهم منتجات تلك المستعمرات ثم تعود بعد ذلك إاى إنجلترا .
وإزاء المقاومة التى يبديها المستوطنون لهذه التجارة المجحفة التى تجرى محققة خسارة لهم تقوم سياسة تتسم بمزيد من النزعة التحررية سمحت من حيث المبدأ بالإتجار مع الأمم الآخرى وفيما بين عامى 1791 ـ 1854 قامت بريطانيا على التوالى بإحتلال كندا وأستراليا ونيوزيلندا وجنوب أفريقيا وأستكمل إحتلال الهند فى عام 1849 فبسط ملك بريطانيا سيطرته من نهر السند إلى براهما بوترا ثم جاءت "وثيقة الهند" عام 1858 لكى تعلن ملك بريطانيا إمبراطورا على الهند وهنا بدأ عصر الهيمنة والتزمت المركزى وقبل الحرب العالمية الثانية بقليل تعرضت الهند لحركة تحررية عميقة بقيادة الزعيم غاندى إلا أن هذه الحركة أسرعت الخطى بعد عام 1945 وفى عام 1947 سلمت بريطانيا السلطة للهنود وبدأت بذلك حركة تصفية الإستعمار وهى الحركة التى لم تنته إلا فى عام 1968 وقد جاءت هذه الحركة بآلام أقل ودماء أقل مما أحدثته وسفكته تصفية الإستعمار الفرنسى وأدت إلى قيام "كومنولث جديد" وتركت الحرية المطلقة فيه لدول مستقلة تماما لكى تنضم أو لا تنضم إليه وفقا لرغبتها وقامت فرنسا بمحاولة مماثلة عام 1960 ولكنها لم تستمر أكثر من عام .
وأيا ما كان الأمر فإن الحلم الإستعمارى سواء لفرنسا أو إنجلترا وكذلك لجميع الدول الأوروبية الآخرى قد إنتهى تماما فلقد كان قائما على إقتناع خيالى بأن الثقافة والمقدرة الأوروبيتين هما وحدهما اللتان لهما القيمة الحقيقية ولذلك فإنه سرعان ما أنهار وإذا كان قد قدم للبلاد المحتلة بعض التقدم فإنه أيضا ترك وراءه الكثير من العداوات العميقة والأحقاد وهكذا فإن هذه المحاولة القائمة على القوة والتى إهتزت لها أوروبا بوصفها أسوأ عبقرياتها قد أثبتت تماما عدم جدواها .