الأزمة الإقتصادية العالمية فى الثلاثينات

بعد فترة الفرح الذى عم الشعوب المنتصرة وبعد المرارة التى شعر بها الألمان بدأ يظهر فى الأفق شيئا فشيئا ذلك المناخ الذى أدى إلى نشوب الحرب العالمية الثانية 

أدى الإنهيار الإقتصادى الذى حدث فى عام 1929 إلى زعزعة ثقة رجال الأعمال الأمريكيين والذين أخذوا يتساءلون عن مدى ما ينتظر بلادهم من إزدهار فى المستقبل وفى أوروبا كان يراودهم نفس التساؤل إذ كان إقتصاد البلاد الأوروبية يتوقف بدرجة كبيرة على التجارة والإستثمارات فى العالم الجديد غير أن معظم الناس كانوا يرفضون تصديق أن ذلك الإنهيار لم يكن سوى ظاهرة قصيرة الأمد لإنخفاض الأسعار وهى جزء من الدورة الإقتصادية المعتادة أو كما كان يقول الرئيس هوفر فى بداية عام 1930 "إن الإزدهار على الأبواب" .
  • منشأ الإنهيار 
ترى ما هى الأسباب التى أدت إلى الإنهيار الذى أعقب ذلك ولماذا وصل إلى تلك الدرجة من الخطورة ؟ 
فالهبوط المفاجئ فى سوق الأوراق المالية وول ستريت والذى حدث فى شهر أكتوبر 1929 لم يكن سوى بداية الأزمة أما الأسباب فترجع إلى العشرينات وفى خلال تلك الفترة كان الإنتاج قد تزايد بمعدل سريع ولكن نصيب العمال والفلاحين من الأرباح لم يكن سوى جزء ضئيل لا يهيئ لهم القدرة الكافية على شراء المنتجات الإستهلاكية العديدة التى حفل بها ذلك الإنتاج المتزايد كانت المصانع الجديدة يجرى إنشاؤها فى الولايات المتحدة الأمريكية وفى أوروبا ولم يكن لديهم من النقود ما ينفقونه فى شراء المنتجات الجديدة وكانت السياسة الخاصة بالرسوم الجمركية تعوق عمليات الإستيراد وتتسبب فى بطئ نمو التجارة الدولية وما أن أدى الإنهيار إلى زعزعة ثقة البلاد حتى أخذ القصور فى إقتصادياتها يبدو أكثر وضوحا ولم تكن المصانع والمصارف تتمتع بالقدر الكافى من الإزدهار الذى يساعدها على مقاومة الإفلاس وكان إنهيار بعضها يجر وراءه إنهيار بعضها الآخر .
  • إجراءات الرئيس هوفر 
لم يكن الرئيس هوفر يشعر بالقلق طوال عام 1930 وإن ظل يرفض كل تدخل مباشر فى الأزمة من جانب السلطات العامة كان هوفر مثله فى ذلك كمثل باقى الرؤساء فى ذلك العصر ويعتقد أن من واجب الحكومة المحافظة على موازنة الميزانية وتجنب تضخم الدين العام وذلك بعدم التدخل فى السياسة الإقتصادية وأن الواجب إنما يقع على عاتق المنتجين والمستهلكين أنفسهم لإيجاد العلاج اللازم ولما يعانيه الإقتصاد من إعتلال .
ر فإن هوفر أضطر لتدخل الحكومة عن طريق غير مباشر فأستشار رجال الأعمال والمديرين الزراعيين والعمال وطلب منهم المحافظة غدعلى الإستقرار وذلك بالإستمرار فى الإنتاج والعمل مع المحافظة على معدل الأجور والأسعار كما أكد على أهمية التعاون الإختيارى ومنذ ربيع عام 1930 كان الإعتقاد بأن تلك الإجراءات قد أثبتت فاعليتها وقد خضعت الضرائب وخصصت للمشروعات العامة إعتمادات ضخمة فى الميزانية بلغت 493 مليون دولار 
ومن جهه آخرى أخذ المنتجون يخفضون إنتاجهم شيئا فشيئا الأمر الذى أدى إلى تزايد عدد المتعطلين وقد طلب الكونجرس بضرورة تدخل الرئيس تدخلا مباشرا لحل الأزمة وتمت الموافقة على تعريفة هاولى سموت بقصد حماية المنتجات الزراعية من المنافسة الأجنبية ولتثبيت الأسعار .
  • مسألة سداد ديون الحرب فى أوروبا 
فى ربيع 1931 طرأ تحسن بسيط على الموقف الإقتصادى فى الولايات المتحده أما أوروبا فكان الموقف يزداد تأزما فكان الإقتصاد الأوروبى منذ نهاية الحرب العالمية الأولى يعانى من نقص فى الإنتاج وهبوط مستواه فى مجال المبادلات التجارية الدولية وفى نفس الوقت كانت كافة الدول مرتبطة بشبكة ديون الحرب والتعويضات وكانت ألمانيا هى التى تحملت الجزء الأكبر من تلك الديون وكان نصف هذا الجزء مستحقا عليها للولايات المتحدة كما أن دولا أوروبية آخرى كانت مضطرة لتسديد بعض المبالغ للولايات المتحدة وتعهدت بتنفيذ ذلك من مبالغ التعويضات التى كان عليها أن تتسلمها من ألمانيا ولكى تتمكن هذه الأخيرة من تنفيذ إلتزاماتها إضطرت للإقتراض من الولايات المتحدة ومن غيرها من الدول .
وإذا كانت بعض هذه الدول مستعده لتخفيض قيمة الديون المستحقه لها إلا أن عددا قليلا منها هو الذى كان يقبل تخفيض رسومه الجمركية للسماح بإستخدام الواردات كوسيلة للسداد ومن جهه آخرى رفضت الولايات المتحدة مجرد النظر فى تخفيض أو تأجيل ديون الحرب ولذلك فقد أصبح النظام المالى الأمريكى هو حجر الزاوية فى توازن الإقتصاد الأوروبى وعندما إنهار سوق الأوراق المالية فى نهاية عام 1929 وتسبب عن ذلك زعزعة الإستقرار الظاهرى للولايات المتحدة بدأ الإقتصاد الأوروبى يهتز وفى عام 1930 رأينا إنخفاضا فى الأسعار وفى الإنتاج وفى حجم التجارة الدولية وأخذ عدد المتعطلين يتزايد .
  • كوارث مصرفية فى النمسا وألمانيا 
أخذت دول وسط أوروبا تعقد قروضا عديدة قصيرة الأجل منذ عام 1927 وفى مارس 1931 طالبت فرنسا كلا من النمسا وألمانيا بسرعة سداد القروض العديدة التى قدمتها لها ولاسيما أن أخبار مشروع عقد إتحاد جمركى بين ألمانيا والنمسا أزعج رجال المصارف الفرنسيين ولم تكن النتائج المحتملة لمثل هذا الحادث قد قدرت التقدير الكافى فى ذلك الوقت ولكن حدث فى شهر مايو أن تقدم البنك الرئيسى فى النمسا إلى حكومته الذعر فى ألمانيا مما أدى إلى قيام الدول الأجنبية بسحب معوناتها المالية ولذلك فإن الحكومة لم تتمكن من سداد قيمة التعويضات المفروضة عليها وقد تلقت المصارف الإنجليزية والأمريكية طلبات قروض ولكن حالة تلك المصارف لم تكن من القوة بحيث تتمكن من مساندة النظم المالية المتداعية فى كل من ألمانيا والنمسا وفى شهر يونيه تدخل الرئيس الألمانى هندنبرج شخصيا لدى الرئيس هوفر وطلب منه مساعده عاجلة .
كان الرئيس الأمريكى منذ بضعة شهور يفكر فى إقتراح إصدار موراتوريوم لمدة سنه يوقف خلالها سداد الديون والتعويضات بين الحكومات وكان قد أجل عرض هذا المشروع لما كان يخشاه من إثارة إعتراضات مجلس الشيوخ وبعض الدول الآخرى ولاسيما فرنسا وحتى بعد الطلب الملح الذى تقدمت به ألمانيا ظل يؤخر تنفيذ هذا الإجراء تجنبا لرود الفعل السياسية وأخيرا قدم مشروعه فى شهر يونية وبعد تأخير أسبوعين إنضمت فرنسا إلى باقى الدول الكبرى وكان الرأى العام الذى رحب بإجراءات الرئيس هوفر يعتقد أن الأومة الأوروبية قد بلغت نهايتها والواقع أن المؤسسات المالية الأوروبية صمدت بعض الوقت غير أن موجة الكوارث التى بدأ ظهورها فى فيينا إستمرت واضحة فى بلاد آخرى وفى سبتمبر 1931 تخلت إنجلترا عن قاعدة الذهب وخفضت قيمة الجنيه الإسترلينى وعلى مدى بضعة شهور إتخذت معظم الدول الأوروبية الآخرى نفس الخطوة فيما عدا الولايات المتحدة وفرنسا وإيطاليا وقد أدى عدم التوازن النقدى الذى نجم عن ذلك إلى كساد التجارة والتبادل الدوليين وأخذ الإنهيار الإقتصادى فى أوروبا يزداد حده .
  • الموقف فى الولايات المتحدة 
ما أن أوشك عام 1932 على الإنتهاء حتى كان عدد المتعطلين يتجاوز 12 مليونا وتوقف أكثر من 2000 مصرف عن مزاولة نشاطه وقد أضطر الرئيس هوفر إزاء تفاقم الأزمة إلى طلب إنشاء وكالة إتحادية تكون مهمتها تقديم القروض للمصارف وللمشروعات المزدهرة لمساعدتها على مواصلة أنشطتها وقد ساعد هذا الإجراء المؤسسات المالية ولكن فائدته كانت ضئيلة بالنسبة لرجل الشارع وكانت البلاد فى حاجة إلى رجل قوى يتولى زمام أمرها وفى أثناء المعركة الإنتخابية للرئاسة عام 1932 كان الأمريكيون قد زالت عنهم غشاوة الوهم بأن الأزمة فى طريقها إلى الحل فتحولوا بأنظارهم نحو فرانكلين روزفلت الذى كان تأكيده وتعهده بتنفيذ "الخطة الجديدة" قد أحيا الأمل فى قلوب ملايين الأمريكيين .
كان النظام المصرفى فى البلاد يمر بضائقة شديدة عندما تولى روزفلت الرئاسة فى مارس 1933 وكان لابد من إتخاذ إجراءات حاسمة لمواجهة هذا الموقف وبعد أن أغلقت مصارف البلاد أبوابها لمدة أربعة أيام وقدم إقتراح بتشريع جديد يهدف إلى إعادة الثقة وسرعان ما وافق الكونجرس على قانون "النجدة العاجلة للبنوك" الذى يخول الحكومة سلطة منح القروض للمصارف التى تعانى ضائقة بشرط أن يكون مركزها سليما وإغلاق المصارف الآخرى المنهارة وعندئذ خاطب الرئيس الشعب من خلال إحدى إذاعاته الشهيرة "ندوة حول المدفأة" وشرح الإجراءات التى شرع فى إتخاذها وأكد على ضرورة الثقة بالجهاز المصرفى فى البلاد ولم ينقضى شهر على ذلك حتى عاد الأفراد إلى تغذية حساباتهم المصرفية .
  • الخطه الجديدة 
وهنا عرض روزفلت على الكونجرس أولى الإجراءات التى تتطلبها خطته الجديدة وهى الإجراءات التى تهدف إلى إنعاش البلاد وإصلاح أمورها وفى خلال 100 يوم الأولى لتوليه الرئاسة إقترح المبادرات الآتية :
برنامج الإنعاش الزراعى 
مساعدة المتعطلين 
الرقابة الإتحادية على أنشطة البورصة (أسواق الأوراق المالية) 
إجراءات وقائية ضد الحجوزات العقارية على الأراضى 
برامج إنعاش الصناعة والسكة الحديدية 
وقد لاقت كل هذه المقترحات القانونية موافقة الكونجرس وفى ربيع 1933 إتخذت إجراءات جديدة تهدف إلى مساعدة الدول الأوروبية وقد إشتركت 64 دولة فى المؤتمر الإقتصادى الدولى الذى عقد بلندن لمناقشة مسألة الرسوم الجمركية وعدم إستقرار النقد وكانت الولايات المتحدة قد سبق لها أن رفضت إعادة النظر فى مسألة إيقاف تسديد ديون الحرب .
كان المسئولون الأوربيون يرون أن تثبيت النقد من المسائل الحيوية لتنشيط التجارة الدولية وكان روزفلت يوافق من حيث المبدأ على هذا الرأى ولكن عندما عرض عليه أن يحدد سعرا ثابتا للقطع بالنسبة للجنيه الإسترلينى والدولار الأمريكى رفض الموافقة على ذلك وإن كان فى الواقع يفضل إعطاء الأولوية للمسائل المتعلقة بالإنعاش الداخلى فى بلاده وكان يرى أن تخفيضا جديدا لقيمة الدولار كفيل بمساعدته على تحقيق هذا الهدف وكانت هذه الضربة التى حالت دون وضع سياسة إقتصادية دولية جديدة من أهم الأسباب التى أدت إلى فشل المؤتمر .
هذا ولم تكن الأزمة تمس سوى أوروبا والولايات المتحدة أما اليابان فكانت تواجه إنفجارا سكانيا لم يسبق له مثيل فضلا عن موقف إقتصادى غير موات وكان أول إجراء إتخذته لمواجهة هذا الموقف هو الحصول على أراضى جديدة فبدأت بإحتلال منشوريا فى عام 1932 وقد أدانت الأمم المتحدة هذا الإجراء ولكن لم تحاول أن تفرض على اليابان أية عقوبات إقتصادية قد يكون من شأنها إشعال نار الحرب وفى نفس الوقت كانت هناك سياسة عدم تدخل آخرى مشابهة عرفت بإسم "سياسة حسن الجوار" تقوم بين أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية .
كانت تجارة أمريكا اللاتينية قد واجهت هبوطا بالغا خلال السنوات الأولى من الأزمة تسببت فى حدوث كساد إقتصادى وقد قبلت الولايات المتحدة النزول عن الحقوق والإمتيازات التى حصلت عليها فى كثير من دول أمريكا اللاتينية وأعترفت بسيادة كل دولة منها .
  • إصلاحات الخطه الجديدة 
فى نهاية عام 1934 كانت أدق مرحلة من مراحل الأزمة قد إنتهت وبات المتعطلون والعمال ينتظرون البرامج الإجتماعية الجديدة لروزفلت وكان فى مقدمة هذه البرامج برنامج للمساعدة لإقامة مشروعات أشغال عامة محدودة بقصد إتاحة فرص العمل لعدة ملايين من المتعطلين والمتعطلات وقد عهد بهذه المشروعات إلى "إدارة تنمية الأشغال" وكانت تشمل مهام شديدة التباين من إنشاء القناطر وهى التى كانت تشكل عقدة إقتصادية مستقلة وتشرف عليها سلطات وادى تنيسى وطلاء جدران المبانى العامة وقامت "هيئة المحافظة المدنية" و"الإدارة الأهلية للشباب" بتشغيل الشباب المتعطل وبفضل هذا الإجراء تمكن ملايين من الأفراد القادرين من العمل والحصول على مكافآت من هذه الإعتماداتالتى خصصت للمعونة بدلا من الحصول على معونة البطالة التى لم تكن تخلو من الحث على التكاسل .
وكان الإستفتاء على قانون الضمان الإجتماعى قد أوضح أن الحكومة قد قبلت الأضطلاع بمسئولية الأفراد المسنين والمتعطلين والعجزه بمنحهم مكافآت شهرية وبعد النجاح الذى لاقته هذه البرامج أعيد الإنتخاب لروزفلت لفترة رئاسية ثانية أثر فى محاولته إقرار قانون إصلاح المحكمة العليا وبزيادة عدد القضاة وبهذا الإجراء كان روزفلت يعمل ضد قرارات عديدة أصدرتها المحكمة بإبطال عدة إجراءات غير شعبية طلب إتخاذها فى أثناء فترة رئاسته الأولى وبعد عدة أشهر كثرت فيها الإنتقادات ودارت فيها المناقشات العامة رفض مجلس الشيوخ هذا المشروع وكان ذلك فى منتصف عام 1937 وبذلك واجه روزفلت فشلا سياسيا قاسيا .
كما واجه برنامج روزفلت فشلا آخر خلال صيف عام 1937 عندما تعرضت البلاد مرة آخرى لأزمة طاحنة وإذا كان إقتصاد البلاد قد واجه ميلا قليلا للتحسن منذ عام 1933 إلا أنه كان تحسنا وقتيا وقد أدى تخفيض المصروفات العامة وتخفيض أسعار الحاصلات الزراعية إلى زعزعة التوازن الإصلاحى ومرة آخرى أضطر الكونجرس إلى الإسراع ببرامج الأشغال العامة التى تشرف عليها إدارة تنمية الأشغال وزيادة نشاط المؤسسات الحكومية الآخرى وقرب منتصف عام 1938 طرأ تحسن جديد على إنتاج المهمات والمواد الإستهلاكية وعلى العمالة .
  • شبح الحرب 
لم تعد إصلاحات الخطة الجديدة تحتل المركز الأول على مسرح الأحداث فقد أخذ شبح الحرب يزداد إقترابا إلى أن وقعت الواقعة ففى أول سبتمبر غزت ألمانيا بولندا وأدرك العالم كله أن الحرب أصبحت حقيقة واقعة وذلك عندما أعلن رئيس وزراء بريطانيا "نيفل تشمبرلين" على الشعب البريطانى يوم 3 سبتمبر 1939 أن "إنجلترا فى حالة حرب مع ألمانيا" وبذلك بدأت صفحة جديدة من التاريخ .