"كان ابى يشجعنى على حفظ القرآن كى ادخل الازهر وكان يقول لى كل صباح إن لم تتعلم لن يكون امامك سوى ان تعمل خادما لتشرب الاهانة والذل كل يوم" .. مبارك عبده فضل
لا ضرورة للقول أنه فقير ابن فقير يكفي أن تقول هو نوبي فالفقر يطحن النوبيين جميعا والأب خادم في أحد منازل الأغنياء ثم أسعده الحظ وعمل ساعيا في وزارة المالية بأربعة جنيهات شهريا وتعلق طموحه بأن يتعلم مبارك ويصبح أفنديا لكن الولد ضعيف الإبصار وسقط في الكشف الطبي فلم يستطع الالتحاق بمدرسة عينبة الابتدائية ولا سبيل سوي الالتحاق بالأزهر وفي عام 1939 وكان في الثانية عشرة حضر مبارك إلي القاهرة وعكف علي حفظ القرآن علي يدي شيخ نوبي هو الشيخ حسن قاسم استغرق الأمر عامين كاملين كل يوم كان والده يذكره إما حفظ القرآن وإما أن تعمل خادماً وفي عام 1942 أتم الحفظ ودخل ابتدائية الأزهر والإخوة خمسة والسكن في غرفة واحدة في منزل فقير بالسبتية وكل يوم يعطيه الأب خمسة مليمات يمشي من السبتية إلي الدراسة حيث المعهد ويعود ماشيا أيضا أما المليمات الخمسة فهي لطعامه طول اليوم .. طعام لا يتغير سندوتش مكرونة واستمرت المعاناة حتي 1945 عندما قررت الحكومة منح الطلاب الغرباء معونة شهرية والمثير للدهشة أنهم كانوا يعتبرون النوبيين غرباء وضموهم هم والنوبيين السودانيين في رواق واحد هو رواق شمال السودان ولم يثير الأمر دهشة أحد فالجميع كانوا يعتبرون أن وحدة مصر والسودان أمر واقع .
الأزهر منحه ثلاثة جنيهات شهريا وجنيه رابع من مجلس الوزراء هذه الثروة اقتسمت بالعدل "الشيخ مبارك" (بهذه الثروة استحق لقب شيخ) ينال جنيها كاملا والثلاثة للأسرة ويقول مبارك "بهذه الجنيهات الثلاثة أصبحت الأسرة كلها تحترمني وتغيرت معاملة أبي تماما توقف تماما عن ضربي أو إهانتي (وكان يفعل ذلك بسبب وبدون سبب) وأصبح يتشاور معي في شئون الأسرة وهكذا اكتشفت قيمة أن أتعلم وبالذات أن أكون أزهريا كنت طالبا مجدا وأنجح بتفوق وأقرأ كثيرا وخاصة في كتب الأدب ثم تحولت إلي كتب التاريخ" ثم كانت البداية "في صيف عام 1945 وخلال الإجازة الصيفية وبعد أن نجحت في امتحان النقل من الثالثة إلي الرابعة الابتدائية وفيما اتجه أنا وطالب أزهري يسبقني بعامين لنلعب مباراة كرة شراب هو (محمد عثمان نور) وهو من أبناء قرية "أبو هور" النوبية سألني "ماذا تعرف عن الشيوعية ؟ فقلت أعرف أنها تساوي بين الأغنياء والفقراء (إنه إحساس الفقير المطحون الذي دفع عديداً من الشبان النوبيين إلي صفوف الحركة الشيوعية) وسألني ثانية: عايز تبقي شيوعي ؟ قالها ببساطة ودون مقدمات وأجبته ببساطة "أيوه" وببساطة أصبحت عضواً في الحركة المصرية للتحرر الوطني حيث تلقيت تسع محاضرات مطبوعة أذكر منها "أمراض المجتمع - تطور المجتمع - الرأسمالية - الاستعمار - الاشتراكية - الفاشية والحرب" وكانت محاضرات مبسطة جداً كل منها حوالي سبع صفحات ويشرحها لنا طالب سوداني هو عبدالله الأمين وبعدها أصبحت عضواً في الحركة المصرية وفيما كان أبي يشرف علي تنظيف الغرفة في يوم إجازة عثر علي مجموعة من النشرات والكتيبات الشيوعية وفزع وجري نقاش حاد انتهي بعبارة حاسمة "يا ابني أنا كمان ضد الأغنياء لكن لا يمكن لفقير مثلنا أن يحاربهم ولازم تكون غني علشان تقدر عليهم" الأب بكي للمرة الأولي فحلمه في ابن معمم ينال مرتباً كبيراً ويصبح ملاذا للأسرة كلها يتبدد ومن البكاء إلي مجالس عائلية لكن الفتي يزداد عنادا فكان أن طرده الأب من البيت يظل الفتي يرسل لأمه سراً بعضا من الجنيهات الأربعة ويدرس في المعهد ويعمل في قسم الأزهر الذي كان يضم عديداً من الأزهريين الشيوعيين كما أسهم مع زكي مراد ومحمد خليل قاسم في بناء القسم النوبي في التنظيم وفي عام 1948 وكان في ثانوية الأزهر وجرت محاولة من المشيخة في التنظيم من طلاب الأزهر يتقدمهم شيوخ الأزهر الكبار رافعين علم الأزهر للسير إلي قصر عابدين لتهنئة الملك بعيد ميلاده .. رفع العلم في المقدمة ووقف الشيوخ في الصف الأول يتوسطهم الشيخ أحمد حسن الباقوري لكن التلاميذ تمردوا كان مبارك وقسم الأزهر في حدتو ومجموعة الأزهريين الوفديين قد حشدوا الطلاب ليرفضوا الخروج وفشلت المظاهرة وتحول الفشل إلي كارثة فالقصر كان ينتظرهم وتقرر فصل الطالب مبارك عبده فضل من الأزهر الشريف والتهمة "شيوعي" ورغم الفصل فقد كان الشيخ الصغير يقفز عبر السور ليلتقي بالطلاب وينظم منهم مظاهرة في 21 فبراير 1948 ويقف ليلقي خطبة نارية ضد القصر وضد الاحتلال ويقبض عليه ويحبس ثلاثة أشهر تكون بداية لمشوار طويل عبر السجون .
وفيما كان الفتي يقترب من سن الحادية والعشرين كانت حدتو تعاني من ضربات عده الضربات البوليسية المتتالية والانقسامية التي اربكت صفوف المنظمة وطلب إليه أن يحترف فوافق علي الفور. وحضر اجتماعات لجنة بحري وكانت تضم فيما اذكر فؤاد عبد الحليم وحمدي عبد الجواد وفهمي زغلول وعسكري مطافي من الزقازيق اسمه رزق سرور واصبحت مسئولا عن قمسين المحلة ودمنهور. وكان في دمنهور عدد محدود من الرفاق شاب نوبي هو عبد المنعم مكي (موظف في شركة كوكاكولا) والأديب محمد صدف وعدد من الرفاق. وكان مكي مرعوبا من توالي حملات القبض فاستقبلني بحذر برغم أنه نوبي مثلي وفيما أغادر كان معي قرش واحد (وهذا يوضح وضعنا كمحترفين) طلبت منه أي مبلغ فرفض بشدة وكأنه يقول لي لا تعد إلي هنا مرة أخري وكنت مطلوبا للبوليس ولا ملجأ لي إلا في طنطا ولا أستطيع المغامرة بركوب قطار بلا تذكرة فسرت علي قضيب القطار متجها إلي طنطا وعندما وصلت إلي كفر الزيات (أي سرت حوالي 60 كيلو مترا) كنت علي وشك الإغماء واشفق علي عسكري كشك المرور فأوقف سيارة نقل أوصلتني إلي طنطا. ومن طنطا إلي المحلة وقبض علي هناك. وبقيت في سجن طنطا لعدة أشهر ثم أفرج عني ورحلت إلي قسم شرق بولاق في انتظار ترحيلي إلي المعتقل وبقيت في حجز قسم بولاق خمسة عشر يوما هي أسوأ أيام حياتي .. بلا طعام (ثلاثة أرغفة فقط ودون أي طعام آخر) ولا غطاء ولا أي شيء سوي الأسفلت والبرد كان شديداً جداً وكدت بالفعل أن أموت من البرد .. ثم رحلت إلي هايكستب وبدأت في التعرف علي المعتقل وما فيه من معتقلين كثير منهم من هواة الثرثرة والانقساميين" ويسكت مبارك لأتحدث أنا فقد كنت هناك وتلقفني هو أنقذني من ضياع وسط غابة مناقشات لا تنتهي وظل يدرس لي كل ما تعيه ذاكرته من معلومات وخبرات .. وأصبحنا أصدقاء..
ويفرج عنا جميعا مع عودة حكومة الوفد 1950 إلا هو فقد قرروا ترحيله من مصر باعتباره سودانيا لكنه نجح في إثبات مصريته .. وأفرج عنه ليبدأ من جديد "وتعلمت الدرس الحاسم فالبرجوازيون الصغار في صفوفنا هم الأكثر كلاما والأكثر نقداً والأسرع في الهروب" .
مبارك خرج من المعتقل إلي أحضان حدتو التي عانت طوال فترة 1947-1949 معاناة شديدة كثير منها بسبب المطاردات الأمنية لكن الأكثر أتي من الانقسامية فالانقساميون ملأوا الدنيا ضجيجا ومزقوا المنظمة وثرثروا بما كشف أمان الكثيرين وفي المعتقلات والسجون كانوا الأعلي صوتا والأكثر نقدا للآخرين كل الآخرين وعندما أفرج عن الجميع ذابوا بعيدا عن الأنظار وعديد من قادتهم تقبلوا برضاء الدخول في المصيدة التي نصبها لهم فؤاد سراج الدين وكان وزيرا للداخلية في حكومة الوفد. والعرض بسيط للغاية الدولة ستوفدك لإعداد رسالة الدكتوراه في الخارج وقبل الكثيرون منهم وسافروا إلي لندن وباريس ولم يعد كثيرون منهم إلا بعد انتهاء الأيام الصعبة لكن مبارك ليس أمامه ولا خلفه سوي حزبه ونضاله فوضع نفسه تماما وبشكل كامل تحت تصرف الحزب وأصبح عضوا في السكرتارية المركزية التي تمثل أعلي مستوي قيادي يومي وتولي العمل في قطاع منطقة المعز فى القاهرة كما كلف بالإسهام في إصدار مجلة البشير .
وكانت "البشير" هي الخطوة الأساسية في تحقيق توجه جماهيري حقيقي لمنظمة حدتو استأجر الترخيص فتحي الرملي وأصدرها لفترة بمعاونة مجموعة ماركسية صغيرة ثم انفتحت عليه حدتو واتفقوا علي أن تمول حدتو الجريدة (100 جنيه كل عدد) وأن تحرر صفحاتها ماعدا مقالات فتحي الرملي وأن تقوم بتوزيعها ولا مقر للجريدة يلتقي المحررون الثلاثة فتحي الرملي- عبد المنعم الغزالي- مبارك عبده فضل في قهوة صغيرة بالفوالة قبل موعد صدور العدد بيوم يكتبون العدد بأكمله وكان في الأغلب لا يحمل توقيعاتهم لكنني أحضرت مجموعة البشير والتقيت مع مبارك فأشار إلي عدد من المقالات مؤكدا أنه كاتبها وفي أول عدد صدر بمساندة حدتو كتب مبارك "إن هدفنا أن نخلق بمجهودنا ومجهودكم مجلة حرة تمثل الأحرار في مصر وتربطنا بالمعركة المستعرة الأوار في العالم والتي تهدف إلي القضاء علي الاستعمار بشتي صوره والقضاء علي تجار الحروب أعداء السلام لقد عقدنا العزم علي أن نقفز قفزة كبيرة إلي الإمام ونخرج المجلة في ثوب جديد ولن يتحقق هذا الأمل إذا لم تساهموا بجهودكم معنا" (البشير1/7/1950) ويجدر بنا أن نسجل أن "البشير" كانت توزع بأيدي اعضاء وكوادر حدتو ولا يستثني أحد من مهمة التوزيع. فحتي مبارك عضو السكرتارية المركزية كان يتسلم حصته من المطبعة ليدور علي المقاهي والاندية النوبية ليوزع البشير مساء وفي صباح اليوم التالي يحمل عددا من اللفافات إلي عدد من مدن بحري. وفي كل اسبوع كان يحضر إلي المنصورة لينتظرني عند بقال عضو جديد في التنظيم لأمر عليه بعد انتهاء الدراسة واتسلم منه خمسين نسخة واعطيه ثمن العدد السابق.. ثم نمضي ساعة أو أكثر لنتابع تطور العمل الحزبي.
وكان أكثر ما يلح عليه الرفيق داود (مبارك) هو توسيع قاعدة العضوية والعمل الجماهيري وكان يدقق كثيرا في مجال العمل من أجل السلام ويحصي بدقة عدد التوقيعات التي جمعناها طوال الأسبوع علي ميثاق استوكهولم الذي يطالب بحظر استخدام الأسلحة النووية .
وتغلق "البشير" ثم تحترق القاهرة، ويختفي مبارك، فقد كان يزهو دوما "إذا لم يكن لديك مسكن فأنت في مأمن من غدر البوليس لكنه وبسبب ضعف ابصاره الشديد كان يتعرض للقبض عليه سريعا وقبض عليه وإلي السجن من جديد. ثم تكون ثورة 1952 ويجري صراع شديد وساخن حول الموقف منها خاصة أن الرفيق ستالين هاجمها وقال إنها تعبير عن انتصار عملاء الاستعمار الأمريكي علي عملاء الاستعمار الانجليزي لكن حدتو كانت شريكة في صناعة الثورة (خالد محيي الدين- يوسف صديق- أحمد حمروش- أحمد فؤاد وعشرات من الضباط) فكيف يمكن أن يقبل أحد أنها صناعة أمريكية ؟ ولكن من يستطيع مواجهة ستالين ؟ وتصدي مبارك بشجاعة ليعبئ كل حدتو في مسار التمسك بالموقف الصحيح تأييد الثورة وشن حملة شديدة للمطالبة بالديمقراطية لكن الشق الثاني أدي إلي صدام عنيف انتهي بعديد من الكوادر إلي السجون الناصرية وكان مبارك هو المحرك الأساسي للتمسك بهذا الموقف الصعب أن تغضب الحركة الشيوعية العالمية والحكام العسكريين معا كان الثمن باهظا لكن الموقف كان صحيحا وهكذا فرض مبارك علي الشيوعيين المصريين منطقا صعبا: أن تتمسك بالموقف الصحيح مهما كان الثمن الذي تدفعه وتثبت الأيام صحة موقفه .
وإذ تتوالي فترات السجن يستقر به المقام في "سجن مصر" (كان في موقع كوبري السيدة عائشة) وسط حوالي ستمائة من الشيوعيين من مختلف التنظيمات فينشط داعيا إلي الوحدة وينجح في تشكيل لجنة للوحدة (مبارك من حدتو - حمدي عبدالجواد من حدتو ت.ث- ابراهيم عرفة (النواة) أحمد خضر(النجم الأحمر) فخري لبيب (طليعة الشيوعين) واختاروني لتولي سكرتارية اللجنة أسجل المحاضر وأخفيها وأتولي اخراجها إلي خارج السجن حيث وجدت لجنة موازية وأثمر هذا الجهد الى "الحزب الشيوعي الموحد" .
ويتوالي السجن مرة ومرات حتي يكون الإفراج عن الجميع في 1964 ثم يكون حل التنظيمين الشيوعيين الكبيرين وفي اليوم التالي مباشرة للنكسة كان مبارك يجمع خمسة من الكوادر ليؤسس معهم حزبا جديدا سريا تماما ومشكلا أساسا من عضوية جديدة أما مطبوعاته فكانت توقع "أحمد عرابي المصري" إمعانا في السرية ويبقي مبارك عبده فضل مقاتلا حتي الرمق الأخير .
مواضيع ذات صله:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق