موسولينى


هو ذلك السياسى والصحفى المتحمس الذى بدأ فى صفوف اليساريين ثم أسس الفاشية ودفع بإيطاليا إلى الهاوية 

فظ خشن ولكنه واسع الحيلة دكتاتور مولع بالمظاهر والإستعراضات الهائلة وكان يعتقد فى نفسه أنه قيصر إيطاليا الحديثة غير أن هذا الرجل الذى كانت الجماهير تهتف له كما لو كان إلها أنهى حياته معلقا من قدميه بين جموع الشعب الثائرة .
  • إنتصار ساحق 
"خمس دقائق يسمح فيها بإطلاق النار ولن يسمع بعدها شيئ عن الفاشية" وتلك الدقائق الخمس التى إفتقدها التاريخ هى التى طلبها بادوجليو رئيس أركان الجيش الملكى الإيطالى يوم 25 أكتوبر 1922 لكى يوقف إلى الأبد تصاعد ظاهرة تعد من أعجب الظواهر السياسية فى القرن العشرين وأكثرها إرهابا تلك هى الفاشية .
ومع ذلك فإن هذا التيار المتلاطم الذى إكتسح إيطاليا وأمتدت آثاره المخربة إلى أوروبا لم يكن نبتا شيطانيا بل إبتدعه ذلك الرجل بنيتو موسولينى وتحت شعار لا سند له "سياستنا هى العمل" قام الدوتشى (الزعيم) بالتحكم لأكثر من 20 سنه فى مصير بلد كان له ماضى عريق .
  • بالتهديد وبالقوة 
لقد رفض الملك بما إتسم به من ضعف الشخصية ورغبته فى تجنب إراقة دماء رعاياه وتلك الدقائق الخمس التى طلبها بادوجليو وأخذ جو الحرب الأهلية يتكاثف فوق إيطاليا فقررت النقابات اليسارية الإضراب العام وأخذ الجو ينذر بإندلاع الثورة وكان ذلك هو الجو المناسب الذى برز فيه إسم موسولينى بعد أن أطلق كتائبه لمواجهة الإضرابات فى حين وقفت الحكومة فى معزل عن الصراع أما الملك فلم يكن راغبا فى مقابلة العنف بالعنف وكان هذا الموقف المحايد فى صالح موسولينى الذى أخذ يبدو فى صورة الأمين على حفظ النظام أو مبعوث العناية الإلهية وبدأ موسولينى بإصدار إنذار للمضربين وللحكومة بأنه "إذا لم تنجح الحكومة خلال 48 ساعة فى إنهاء الإضراب فإن الفاشيين سوف يضطلعون بهذه المهمة" وبعد إنقضاء المهلة تمكنت كتائب الفاشية من إجبار المضربين على العودة إلى العمل وإضطرت النقابات للإستسلام يوم 3 أغسطس 1922 وأصدرت تعليماتها بإنهاء الإضراب .
وبهذا الإجراء الذى إتسم بالنشاط بقدر ما كان مخالفا للقوانين أثبت به موسولينى عجز الحكومة وأظهر أنه يملك زمام السلطة الفعلية وأخذ يلوح بتهديد الأغلبية وفى 24 أكتوبر 1922 إفتتح المؤتمر القومى للحزب الفاشستى إجتماعاته فى نابولى وصرح فيها موسولينى بقوله "إننا نريد أن نصبح حكومة" وتلا ذلك إصدار الأمر بالتعبئه العامة لأعضاء الحزب وتمكنت قوات الصاعقة التابعة له من الإستيلاء على بعض المواقع الإستراتيجية مما كان يوحى بالزحف على روما وفى 27 أكتوبر قدمت حكومة فاكتا إستقالتها بعد أن إستقالت قبلها وزارات نيتى وجيوليتى وبونومى وقد حاول الملك فيكتور عمانويل عبثا تشكيل حكومة إئتلافية جديدة فكان موسولينى يرفض الإشتراك فيها وأخيرا رضخ الملك وفى 29 أكتوبر كلف الدوتشى بتشكيل الحكومة وهنا تحول الزحف إلى روما إلى عرض للنصر ووقعت إيطاليا بمقتضاه عقدا لمدة 20 سنة مع الفاشية .
  • من الإشتراكية إلى القومية 
ولد بنيتو موسولينى فى أسرة متواضعة فى بريدابيو عام 1883 كان أبوه حدادا غرس فى إبنه الأفكار الثورية ولم يلبث الصبى أن أظهر تحمسا شديدا لها وصار بنيتو مدرسا فترك قرية رومانى وهاجر إلى سويسرا ثم إلى النمسا وقد أستبعد من هذين البلدين بسبب دعايته الثورية وإن كانت الفترة التى قضاها فيهما قد أتاحت له فرصة التعرف إلى نظريات المفكر الفرنسى سوريل ومن كتبه إقتبس الفكرة الأساسية التى تقوم عليها الفاشية وهى مذهب العنف وفى عام 1908 عاد إلى إيطاليا وبعد ذلك بثلاث سنوات صار مديرا لصحيفة الحزب الإشتراكى آفانتى (إلى الأمام) ولكن سرعان ما دفعته مشاعره القومية المتطرفة إلى نقد الميول السلمية المطلقة لحزبه مما دعا الحزب لفصله وفى عام 1914 وعندئذ أصدر موسولينى جريدته الخاصة وأسماها "الشعب الإيطالى" وأخذ يطالب من خلالها بحماس وإلحاح بتدخل إيطاليا إلى جانب الحلفاء فى الحرب العالمية الأولى إلى أن تحقق ذلك فعلا وبعد أن إشترك فى الحرب تم تسريحه فى عام 1917 لجرح أصابه فى أثناء القتال وما أن وضعت الحرب أوزارها حتى إستغل خيبة الأمل التى شعرت بها البلاد إزاء المفاوضات الدولية التى لم تتمخض عن أى مكسب إقليمى لإيطاليا فأنشأ فى عام 1919 الحركة الفاشية التى تستمد إسمها من كلمة "فاشو" التى تدل على العصا رمز السلطان فى عهد الرومان وأطلقت على الخلايا القاعدية للتنظيم الفاشى وكان الحزب الفاشى فى عام 1920 يضم 300.000 عضو يجمعون بين المحاربين القدماء والعاطلين والمتذمرين وكثير من العجزة وفى عام 1921 إندفع الحزب إلى ميدان المعركة الإنتخابية واكنه لم يحصل على أكثر من 35 مقعدا فى البرلمان وإزاء هذه النتيجة أدرك موسولينى أن الفوضى التى كانت تسود إيطاليا هى أحسن حليف له وقد ساعدته الأزمة الإقتصادية والتذمر السائد فى صفوف الجماهير على الإندفاع فى طريق السلطة . 
  • قاتل الحرية 
بدأ التحرك نحو الديكتاتورية متخذا طابع العنف البالغ المقرون بأحترام ظاهر للنصوص الدستورية وقد تولى النظام الجديد الحكم بناء على طلب الملك وأعطى مجلس النواب تفويضا مطلقا لموسولينى كما حصل الفاشيون فى الإنتخابات الجديدة على أغلبية مذهلة بلغت 65% من الأصوات و374 مقعدا وأخذت عجلة الفاشية تدور فأنشأ الحزب جيشه الخاص أو المليشيا وبلغ التحمس ببعض أعضائه درجة أقدموا معها فى 10 يونية 1924 على قتل النائب ماتيوتى زعيم الحزب الإشتراكى والوحيد الذى واتته الجرأة على أن ينعت الدوتشى بأنه "قاتل الحريه" ويزداد الحماس ويدرك موسولينى أن سلطانه يقوم على دعائم واهية فى مواجهة سخط الرأى العام ولكى يعمل على تهدئة الحالة إندفع فى طريق تنفيذ سياسة إقتصادية وإجتماعية واسعة ساعدت المشروعات الكبرى على زيادة الإنتاج وبالتالى إلى تناقص عدد العاطلين وتم تجفيف مناطق يونتيز النقعية كما أعيد إستغلال المناجم القديمة التى كان العمل قد توقف فيها وكان كل إعتماد موسولينى على مشروعاته فى السياسة الخارجية وأستمالة الجماهير فأعلن رغبته فى إحياء الإمبراطورية الرومانية بعظمتها وإستعادة السيطرة التى كانت لروما القديمة .
وإنطلاقا من هذه الأفكار أعلن فى عام 1925 معارضته لمحاولات ألمانيا ضم النمسا والواقع أن موسولينى كان يخشى أن يؤدى سقوط النمسا إلى فتح الطريق أمام الإغارات الألمانية على إيطاليا ولذلك فقط بسط حمايته على وزير مالية النمسا دولفوس الذى إغتاله النازيون فى فيينا وكان رد فعل موسولينى عنيفا ولكن بدون أثر وكان فشله فى هذه المحاولة راجعا إلى رفض إنجلترا وفرنسا التحالف مع الديكتاتور الإيطالى ضد الفوهرر وهكذا فإن التحالف الرباعى الذى عقد بين الدول الأوروبية الكبرى إيطاليا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا لم يقدر له أن يوضع موضع الإختبار وبعد أن حاول موسولينى التقرب من فرنسا أطلق العنان لأطماعه فطالب بنيس وسافوى وكورسيكا وتونس وإبتداء من ذلك الوقت أخذ يتطلع بإصرار نحو أدولف هتلر الذى إستقبله فى ألمانيا عام 1937 إستقبالا حافلا ثم إنضم موسولينى إلى الحلف المضاد للدول الشيوعية الذى كان فى ذلك الوقت يضم ألمانيا واليابان كما إنسحب فى مظاهرة من عصبة الأمم وفى 21 مايو 1939 وقع مع هتلر "التحالف الحديدى" وفى عام 1935 غزا الحبشة التى إستسلمت بعد قتال دام 7 أشهر ومر موكب موسولينى المنتصر أمام 400.000 شخص يطلون من النوافذ ولكى يحقق أطماعه فى البحر المتوسط بدأ يقوى أسطوله بهمه ونشاط .
  • الفاشيون فى السلطة 
ما أن إستولى الفاشيون على الحكم حتى تغير الحزب فبعد أن كان منهجه مضادا للبرجوازية وللكنيسة أصبح ملكيا محافظا وكاثوليكيا وكانت إتفاقيات لاتران 1929 إيذانا بالمصالحة بين الفاتيكان والحكومة والواقع أنه بعد إغتيال ماتيوتى تعرض موسولينى لضغط جماعات "القمصان السوداء" الشهيرة كان يرغب فى إقامة حكومة إتلافية مع الإشتراكيين ولكن زعماء الحزب فى الأقاليم ظلوا مصرين على موقفهم وفى عام 1925 كانت الديكتاتورية تنشر ألويتها فى كل البلاد فقد إقتصر شغل الوظائف الإدارية على ذزى القمصان السوداء وألغيت حرية الصحافة وحلت الجمعيات غير الموالية وأغلقت أماكن الإجتماعات المشبوهة وعمت الإعتقالات بدون إذن النيابة وتم القضاء على المعارضة وفى ظل نظام حكم الحزب الواحد صدر قانون جديد للعقوبات يسمح بمطاردة المعارضين مطاردة قاسية .
وقد وصف موسولينى هذا النظام وهو روحه المحركة بأنه "عمل يحركه مبدأ" وبتجميد الفاشية للعمل كان لابد أن تختفى الأفكار وهنا أيضا يقول موسولينى "إن الأفكار شيئ جميل ولكن السلطة أجمل" وهكذا إستمر الإستعداد للحرب دون أن يواجه صعوبات وقال "إن القتال أساس كل شيئ والحرب وحدها هى التى تترك طابعا من النبل على الشعوب التى تجد الشجاعة على مواجهتها" ومما لا شك فيه أن الفاشية كانت مضادة للفردية "فلا وجود للفرد إلا بإعتباره جزءا من الحكومة" و" الحكومة مطلقة أما الفرد فنسبى" .
أما هذه الحكومة فستكون ما يشاؤه لها رئيسها وقد قام موسولينى بإدارتها بمعاونة نخبة من الرجال كانوا على إستعداد لإتباع كل وسائل العنف فى سبيل الإحتفاظ بالسلطة ويتسم تكوين الحكومة الفاشية بالبساطة فالملك لا دور له وكذلك مجلس الشيوخ إذ أنه يتكون أساسا من أعضاء فاشيين كانوا يقنعون بالموافقة على كل القرارات التى يتخذها الدوتشى والواقع أن السند القوى للنظام كما كان يراه الدوتشى يكمن فى الجهاز "التعاونى" الذى يقوم بمنع الإضرابات ومنع إغلاق المصانع وتجنيب النزاعات بين العمال وأرباب العمل ويخفى بطريقة سحرية الصراع بين الطبقات الذى وضع ماركس نظرياته كما أنشئت نقابة عمالية واحدة لكل مهنة وكل عامل ملزم بأن يدفع لها إشتراكا وهو إشتراك مرتفع القيمة .
وفى نفس الوقت كان يوجد 22 إتحادا تتكون من أعضاء الحزب وعلى رأس هذه الإتحادات يوجد المجلس القومى للإتحادات وهو الذى ساعد فى عام 1930 على ضم النقابات الفاشية إلى بعضها بعضا وسرعان ما حل محل مجلس النواب فى مزاولة إختصاصاته التشريعية وفى عام 1938 أصبح المجلس الفاشى الإتحادى الأداة المثلى فى يد الحكومة إذ لم تعد هناك أى معارضة أما فيما يختص "بالمجلس الأعلى" وهو أداة الحزب ويتكون من رفقاء موسولينى الأوائل فهو الذى يختار النواب ويقدم المشورة للدوتشى وكان الدوتشى هو الرأس المدبر للنظام وهو وحده الذى كان بإستطاعته أن يقود إيطاليا إلى مستقبل أفضل ولذلك كان يشترك فى مظاهرات الجماهير ويلقى الخطب الحماسية وينظم الإحتفالات الفخمة التى يستعرض فيها رجال الفاشست بأزيائهم الرسمية وهم يسيرون بنظام عسكرى ويرددون السلام الأولمبى .
وقد فرضت رقابة مشددة على الصحف والإذاعة والسينما وكل الأنشطة الفنية وأستخدمت كلها فى الأغراض الدعائية ونظم الشباب أنفسهم تنظيما عسكريا كما أهتم موسولينى بأن يتلقى كل طفل من سن السادسة وإلى سن 21 تعليما وطنيا مستلهما من المبادئ الفاشية ومع ذلك ورغم كل هذه المؤسسات ورغم الإشتراك الجماعى للشباب كان موسولينى يشعر بأنه غير حائز على ثقة الشعب كاملة وقد إستبدل العمد المنتخبون بقضاة ولكن المعارضة لآراء الحزب فى المقاطعات كانت لا تزال قوية وشرع رجال "البوليس الخاص" فى إلقاء القبض على الكثيرين بوسائل غير قانونية ومراقبة الحياة الخاصة للأفراد المشتبه فيهم ( بإستخدام أجهزة التصنت على المكالمات التليفونية والرقابة على الرسائل البريدية ) الأمر الذى أدى إلى وصول التذمر بين صفوف الأهالى المدنيين إلى ذروته .
  • سقوط مدوى
"إن الرصاص يمر ولكن موسولينى باقى" ذلك ما كان يؤكده موسولينى إثر كل محاولة من المحاولات الأربع التى وقعت لإغتياله ومع ذلك فإن هذا التماسك الظاهرى للنظام كان مقدرا له أن ينهار بعد أول إنتكاسة عسكرية ففى 24 يوليو 1943 وبينما كانت قوات الحلفاء فى الحرب العالمية الثانية التى نزلت فى صقلية وفى كالابر تتقدم لم يتردد "المجلس الأعلى" من سحب ثقته فى موسولينى وحذا الملك حذوهم فما كان من موسولينى إلا أن يتجه نحو هتلر غير أن "الحلف الحديدى" لم يعد سوى حلم وبينما شرعت إيطاليا فى الإستسلام أمر الملك بإعتقال الدوتشى وظل حبيسا فى أحد المنازل الجبلية فى جران ساسو أشهرا طويلة وإلى ذلك المنزل وصل ضابط ألمانى أسمه سكورزينى فى محاولة جريئة لإنقاذه وما أن وصل موسولينى إلى ميونيخ حتى شكل حزبا مؤقتا وأصدر أمرا بتعبئة إيطاليا بأكملها ثم شكل حكومة فى سالو على ضفاف بحيرة جارد وفى 28 نوفمبر 1943 أنشأ فى فيرونا "الجمهورية الإشتراكية الإيطالية" وبعد ذلك ببضعة أشهر تمت محاكمة زوج إبنته شيانو بتهمة الخيانة ونفذ فيه حكم الإعدام .
وفى 3 يونيه 1944 عندما دخل الحلفاء روما أدرك موسولينى أن آخر أحلامه الخيالية قد أنهار نهائيا وتحول إلى رجل مطارد فر إلى ميلانو ثم إلى كوم وفى 28 أبريل 1945 قبض عليه بعض الأنصار وأعدم هو وصديقته ثم عرض جثمانه فى ميلانو معلقا من قدميه أمام جموع الشعب الغاضب وبهذه الخاتمة المحزنة تنتهى ملحمة غريبة وعظيمة فى نفس الوقت ملحمة ديكتاتور مسرحى كان يظن نفسه إمبراطورا وبموته ثم بموت هتلر بعده زال خطر من أعظم الأخطار التى كانت تهدد العالم الحر الديكتاتورية الفاشية .