كانت آخر محاولة لرفع النسر فوق الأعلام قد إنتهت بحمام من الدماء والشغب والهياج ولا تزال أثاره باقيه
يمكن القول بأن نشأة حزب العمال الإشتراكى الوطنى فى ألمانيا فى عام 1920 كانت بالنسبة لألمانيا بداية فترة حافلة بالأحداث وأقسى حلقات تلك الفترة هى المدة بين عامى 1933 و1945 وهى المدة التى كان فيها النازيون أى أعضاء الحزب الإشتراكى الوطنى يتولون السلطة وفى خلال تلك 12 سنة وعلاوة على نشأة نظام أستغلال الجماهير أندلعت أكبر حرب شهدتها البشرية بما أكتنفها من مذابح وتدمير .
ولا شك فى أن تاريخ الحزب النازى مرتبط إرتباطا وثيقا بتاريخ أدولف هتلر الذى تزعم الحزب منذ عام 1921 وذلك عندما صار هتلر مستشارا للرايخ فى شهر يناير 1933 إذ سرعان ما أصبح الشخصية الأولى فى الحركة ثم فى ألمانيا كلها وتاريخ حياة هتلر وأرتقاءه الغريب هو من أعجب الظواهر وأكثرها غرابة ولا يمكن تفسيرها إلا على ضوء ما أكتنفها من أحداث ويجب ألا نظن أن الفوهرر وهو اللقب الذى أطلق على هتلر ومعناه المرشد والحزب معه كانا يفتقدان تأييد الشعب ولا سيما أفراد الطبقة البرجوازية فهذه الطبقة الأخيرة قد عاونت وعن أقتناع فى وصول الحزب الإشتراكى الوطنى إلى المستشارية وإلى الحكومة إعتقادا منها بأن مصالحها ستؤمن .
وكانت هناك طبقات آخرى من الشعب قد أنهكتها الأزمة الإقتصادية العالمية فى الثلاثينات التى تستحكم فى ألمانيا ولم يسعها سوى الترحيب بالأوضاع الجديدة فى البلاد وترتب على ذلك أن بهجة الساعات الأولى قد تركت فى عقول الكثيرين فراغا سرعان ما إمتلأ بخيبة الأمل والإستنكار بل وبالمعارضة ومن هذا التقديم نستطيع أن نسأل أنفسنا ثلاثة أسئلة :
من هم تلك الشخصيات الذين نعرف أسماءهم فى الحزب الإشتراكى الوطنى ؟
ما هى الفلسفة التى نادوا بها والتى أثارت كثيرا من القيل والقال ؟
ما هى المصالح التى كانت تخدم هذا النظام وتؤيده ؟
- الشخصيات
كانت أهم شخصيات الرايخ هى شخصية هتلر :
فأى نوع من الرجال كان ذلك الرجل ؟
يمكن القول وقبل كل شيئ بأن شبابه لم يتسم بأى دلاله تنبئ بمستقبل عظيم وكان أبوه موظفا بسيطا فى الجمارك ولد له أدولف فى براوناوبالنمسا العليا فى عام 1889 ثم كانت وفاة والديه المبكرة قد أضطرته لقطع دراسته التى كان يتلقاها فى إحدى المدارس التكميلية وهنا بدأت حياته بفترة ضياع أتصلت بتجربة عابره إنتهت بنهاية الحرب العالمية الأولى وقد أشترك هتلر الشاب فى القتال وأصيب بجرح ومن المؤكد أن فترة النحس التى لازمت شبابه المبكر قد تركت بصماتها عليه وقد كان على إستعداد لتجسيد متاعب وآمال الطبقة المتوسطة فى ألمانيا فى ذلك الوقت وهى التى ظلت فريسة للمهانة والهزيمة التى أصابتها من جراء معاهدة فرساى .
أما باقى الشخصيات الهامة فى الحزب النازى ثم فى الحكومة فكانوا جميعا ممن شاركوا فى الحرب العالمية الأولى وكانوا أقرب إلى البرجوازية الصغرى وهم :
وكل هؤلاء الرجال من أنصار مبدأ فرض النظام بالقوة أما باقى مناصب الحزب فقد شغلت بأفراد من الطبقة المتوسطة وبصفة خاصة من بين شباب البرجوازية الريفية الصغرى هذا ويجب أن نلاحظ أن طبقة العمال وعلى الأقل فى البداية لم تتأثر بالدعاية النازية واللفظ الدال على الإشتراكية فى إسم الحزب لا يدل على أى طبقة حزبية بهذا المعنى وفى نفس الوقت فإنه منذ البداية أستفادت النازية من تأييد اليمين المحافظ .
وبعد محاولة الإنقلاب الفاشلة فى 9 نوفمبر 1923 عكف هتلر على البحث عن حلفاء أشد قوة وقد وجدهم بين الوطنيين الألمان فى هوجنبرج ونظم معهم جبهة هازبرجر وكان هذا التحالف هو سبيله للوصول إلى المستشارية كما أن ما أظهره هتلر من الرضوخ للرئيس العجوز هندنبرج كان من العلامات الدالة على تحالف النازيين مع قوة اليمين الألمانى فى ذلك الوقت ومن جهة آخرى فإن هذا التدرج نحو السلطة كانت تسانده أوساط الصناعات الثقيلة بصفة خاصة وكانت الأزمة الإقتصادية العالمية التى بدأت فى عام 1929 قد بلغت ذروتها فى ألمانيا فى عام 1932 وكانت الأوساط الصناعية ترى فى هتلر الرجل القادر على العمل من أجلهم ولإنقاذ مصالحهم وهكذا نجد أن كثيرين من رجال الصناعة بذلوا ضغطا لدى الرئيس لكى يمنح هتلر سلطات المستشارية وهنا لم يتردد البارون فون بابن زعيم اليمين المحافظ من تمهيد الطريق أما الفوهرر .
- الإستيلاء على السلطة
وهكذا أصبح هتلر مستشارا للرايخ فى 30 يناير 1933 وإن كانت الحكومة التى ألفها لم يدخلها سوى عضوين من حزبه وكان الأمر يقتضى تعزيز ذلك الموقف العارض ففى أول فبراير حل الرايشستاج وأخذ حزب العمال الإشتراكى الوطنى يعد للإنتخابات بوضع الموظفين الموثوق فيهم فى المناصب الأساسية وبالدعوة المكثفة للمتطوعين وفى 27 فبراير أحترق الرايشستاج وبالرغم من أن أسباب الحريق ظلت غامضة إلا أن هذا الحادث ساعد على إقصاء الشيوعيين كما أستبعد الحزب الإشتراكى الألمانى .
كانت نتيجة الإنتخابات 17 مليون صوت نالتها الجبهة الإشتراكية الوطنية ووافق الرايشستاج على منح هتلر كافة السلطات لمدة أربع سنوات وسرعان ما أهدرت القوانين الدستورية بمراسيم متلاحقة وأختلطت السلطتان التنفيذية والتشريعية وأنتقلت كلتاهما إلى مستشار الرايخ وأخيرا كان إخضاع جهاز الشرطة سببا فى توطيد سلطة الإشتراكية الوطنية وقد نظمت قوات الشرطة طبقا لمقتضيات الموقف وعهد برئاستها لرجل واحد هنريش هملر رئيس الحرس الخاص للفوهرر .
أما الجيش فكان دائما يكون فى ألمانيا طبقة مغلقة كانت الوريثة المباشرة للتقاليد البروسية ففى عهد جمهورية فيمار لم يكن الجيش سندا حقيقيا للديموقراطية ولم يتغير موقفه هذا فى السنوات التى سبقت إستيلاء أدولف هتلر على السلطة فى حين أعلن قادته نواياهم للقضاء على الإشتراكيين الوطنيين وفى الوقت نفسه كان جيش الرايخ يرى فى القضاء على فرق القمصان البنية فى ليلة "المدى الطويلة" من يوم 30 يونية 1934 إستعادة لإحتكاره قوة السلاح ولإستقلاله وفى نفس الوقت توطيدا لمركزه وسرعان ما أنضم الجيش إلى ركاب الحركة السياسية الجديدة وكان القانون العسكرى الذى صدر فى عام 1935 قد فرض على جميع أفراد القوات المسلحة أداء يمين الولاء للفوهرر وصاروا إعتبارا من ذلك الوقت مسئولين أمامه شخصيا .
- الأيدلوجية
كان هتلر يتبجح بالقول إنه سوف يضع مفاهيم جديدة للعالم ستؤدى إلى "تجديد وجه ألمانيا والعالم وإرساء هذا التغيير لمدة ألف عام من إدخاله وأنه سيكون بالنسبة للعالم الحديث ما كأنه ظهور المسيحية فى العالم القديم" وقد طور هذه الأفكار الجديدة فى كتابه كفاحى الذى صار بعد ذلك إنجيلا إجباريا مفروضا على كل ألمانى وكانت الأيدولوجية النازية تستند إلى عدة آراء إقتصادية وعلمية وفلسفية أعيد تفسيرها تفسيرا جديدا فمن آراء توماس مالثوس الإنجليزى أستعيرت نظريته الخاصة بالنمو السكانى الذى يتغلب دائما على النمو الإقتصادى الأمر الذى سيؤدى بالبشرية إلى المجاعة السريعة ما لم يحدث تغيير فى السياسة العالمية ومن آراء عالم الأحياء تشارلزر . داروين أستعيرت نظريته فى "الصراع من أجل الحياة" وصرح بأن الشعوب الأقوى هى وحدها التى ستبقى فى هذا الصراع وكانت آراء العنصرية التى كتبها كونت دى جوبينو وستيوارت شامبرلين تدعى إمكان إثبات أن الشعب الألمانى مكلف بالدفاع عن الجنس الآرى ضد اليهود الذين كان عددهم فى ذلك الوقت كبيرا فى ألمانيا وأنطلاقا من هذه الأفكار وضع هتلر نصب عينيه هدفين :
الأول : القضاء على اليهود
الثانى : توسيع الرقعة أمام شعبه
وكان مشروع شن الحرب على روسيا وهو المشروع الذى تحقق فعلا يدعم هذين الهدفين فإن الإتحاد السوفييتى دولة قليلة السكان نسبيا كما أنه فى رأيه كان خطه الدفاعى الأول ضد اليهودية العالمية .
إن مثل هذه الأيدلوجية كانت تتطلب سياسة داخلية وسياسة خارجية وثيقتى الصلة ببعضهما بعضا تهدفان لتحقيق غرض واحد وهو ضمان حماية وتفوق ألمانيا ولذلك كان من الضرورى تهيئة الشعب بطريقة منظمة لأحتمال مواجهة الحرب وكان ذلك هو ما عكف هتلر على تحقيقه عن طريق بث الصفات التى كانت فى رأيه صفات أساسية وهى الإحساس بالأمة وأحترام مبدأ الزعيم وتقديس البطولة وبث الروح العسكرية ويقابل ذلك كله أن أصبحت كل فكرة عن الحرية والديموقراطية والأممية من الأفكار المشبوهة وأستبعدت جميع العناصر المشاغبة أو المبالغة فى الإعتدال وكانت أهم أعمال القهر النازى هى قوانين نورنبرج التى صدرت فى عام 1935 ومعسكرات الإعتقال التى ضمت كل المعارضين للنظام والمذابح التى دبرت لليهود وبصفة خاصة فى عام 1938 مع ليلة "البللور" وهى المذابح التى أطلق عليها الهولوكوست .
وبعد أن أستكمل الحزب النازى تكوينه وقسم إلى فرق ذو القمصان البنية وفرق الحماية والحرس الخاص للزعيم لم يبقى إلا أن يتبع الشعب الخطى وقد عرف هتلر كيف يربط الألمان بأسمه عن طريق خطبه التى كانت تلهب حماس الجماهير وكان الشعار الوطنى "رايخ واحد شعب واحد فوهرر واحد" كما صارت عبارة "هاى هتلر" هى وسيلة التحية المفروضة على الجميع غير أن قادة النظام لم يكونوا كلهم من أنصار هذه الأيدلوجية ولكن هتلر لم يكن يهتم إلا بالسياسة العليا وكان يساعده فى ذلك وزير خارجيته يواكيم فون ريبنتروب هذا بينما وضع هملر وألفريد روزنبرج نظرية نازية عن الأجناس فى حين كان العسكريون يرون بأعينهم توطيد مركز الرايخ ويأملون فى أن يتحقق إلغاء معاهدة فرساى التى حملت إليهم المذلة والهوان غير أن كثيرين منهم إزاء التطور الحربى للأحداث عارضوا سياسة النازى الخارجية أما رجال الصناعة وقد أنطووا تحت لواء يالمار شاخت الذى كان رئيسا لبنك الرايخ حتى عام 1938 كانوا يتطلعون للسيطرة الإقتصادية على أوروبا الوسطى والشرق وسرعان ما أصبحوا العناصر المنفذة إن طوعا وإن كرها لصناعة تعد للحرب ثم لصناعة حربية أستنزفت دماء الأمة حتى آخر قطرة أما رجل الشارع فقد تأثر بالشعارات التى كانت تدعو لمناهضة الشيوعية وكراهية اليهود .
- طريقة الحكم
كان هتلر عند توليه المستشارية قد وعد العاطلين الألمان الذين بلغ عددهم فى ذلك الوقت قرابة سته ملايين أن يوفر العمل لهم جميعا وكان ذلك هو ما تحقق فعلا فى بداية عام 1939 عندما توافر العمل فعلا للجميع ففى عام 1934 وبالرغم من نصوص معاهدة فرساى التى كانت تفرض على ألمانيا تحديد تسلحها صارت نصف إستثمارات البلاد مخصصة لمجهود الإعداد للحرب وكان الشعب هو الذى يدفع مصاريف كل تلك الإستعدادات على حساب حياته اليومية وكان العمل إجباريا يوم الأحد وصار تجنيد الأطفال الصغار فى جماعات "شباب هتلر" وحلت جبهة عمل ألمانية يشرف عليها الحزب محل النقابات التى ألغيت ولم تنج الحياة الدينية من التدخل فأنشئت جماعة "المسيحيين الألمان" وقصارى القول إن النظام سرى فى كل مرافق الحياة ومع ذلك فإن النازيين لم يفلحوا فى السيطرة على كل طبقات المجتمع الألمانى فأحتفظت طبقة الأرستقراطيين المحافظين بمجتمعها مغلقا .
- المقاومة الداخلية ونهاية النظام
إن نظاما كهذا لم يكن ليسمح إطلاقا بالمقاومة ومع ذلك فإن صورة ألمانيا المتحدة والإجماعية هى الصورة التى كانت الألعاب الأولمبية التى عقدت فى برلين فى عام 1936 تهدف إلى إبرازها أمام العالم تلك الصورة أخذت تختفى وفى الخفاء بدأت الخلايا الإشتراكية تعمل ضد النظام وأخذ الحزب الإشتراكى الديموقراطى الألمانى وكان زعماؤه فى المنفى منذ عام 1933 ينظم المقاومة من الخارج وكان من أبرز أعضاء هذا الحزب فيلى برانت الذى حارب أثناء الحرب العالمية الثانية تحت لواء العلم النرويجى وعند عودته لن تفلح الكراهية التى كان الألمان يكنونها "للمهاجرين" الذين هربوا من النظام تجنبا لويلاته فى منع برانت من أن يصبح عمدة برلين فى عام 1957 ثم تلاه بوندس كانزلر فى عام 1969 كما يجب أن نذكر أن عدة محاولات جرت لإغتيال هتلر وإن باءت جميعها بالفشل حتى تلك المحاولة التى جرت فى 20 يوليو 1944 والتى كانت أكثرها دقة فى التخطيط الذى أشرف عليه الجنرالات .
هذا ومن المستحيل التعبير سواء بالكلمات أو بالأرقام عن كافة التضحيات التى فرضتها الحرب التى قادت إليها النازية فكانت الخسائر فى الأرواح والدمار الذى حل بالمنشآت مما يفوق الحصر ويقدر عدد الأرواح التى فقدت بحوالى 40 مليونا ومن جهة آخرى فإن النظام النازى قد أهلك من اليهود ما يتراوح بين 5.5 و6 ملايين يهودى بتخطيط منظم وكان منهم بولنديون وروس وأوكرانيون وكذلك عدد كبير من رعايا البلاد التى أحتلتها ألمانيا كان هؤلاء الأخيرون قد نظموا فى شجاعة شبكات للمقاومة كانت المساعدات التى قدمتها للحلفاء ذات أهمية بالغة ساعدت هؤلاء على القضاء نهائيا على النظام النازى .