قالت امرأه من الشعب كانت تصلى بالقرب من نعشه
"كأن إنجلترا كلها تموت"
فى عام 1939 وفى بداية أكبر حرب عرفها التاريخ المعاصر وفى الوقت الذى بدأت فيه المواجهة بين الديموقراطية والديكتاتورية كانت آمال العالم الحر تتجه نحو رجل واحد يبلغ من العمر 65 عاما ذلك هو ونستون ل . س . تشرشل فى وقت كانت حياته السياسية الطويلة تبدو وكأنها وصلت إلى نهايتها ومع ذلك فإن سيجاره الضخم ووجهه العابس والإشارة التى إشتهر بها والتى كان يرسمها بأصبعين حرف (v) رمزا على النصر سرعان ما أصبحت بالنسبة للحلفاء رموزا على مقاومة الفاشية .
وقد توفى تشرشل وهو فى 90 من عمره بعد أن ظل عضوا فى مجلس العموم طيلة 53 عاما وشغل مناصب وزارية فى 11 قطاعا مختلفا وتولى رئاسة الحكومة مرتين وكان ونستون تشرشل صحفيا مشهورا ومؤرخا بارزا وخطيبا مفوها ومخططا حربيا لامعا علاوة على كونه فنانا ماهرا وأول أجنبى يحصل على صفة "مواطن شرف" فى الولايات المتحدة الأمريكية .
ولد ونستون ليونارد سبنسر تشرشل يوم 30 نوفمبر سنة 1874 فى منزل الأسرة فى بلنهايم مقاطعة أكسفورد وكان أبوه اللورد راندولف تشرشل إبن الدوق السابع لمارلبورو الذى ينحدر من أقدم الأسر الإنجليزية كما كان رجلا سياسيا مرموقا أما والدته فهى جينى جيروم تلك السيدة الرائعة الجمال التى كانت تكنى "بالنمر الأسود" تحقيرا من بلد لا يقر زواج أحد أفرراد آل مارلبورو من إمرأه من العوام فضلا عن كونها أمريكية .
تلقى تشرشل الشاب علومه أولا فى أسكوت فى مدرسة مخصصة لأبناء الطبقة العليا وقد تميز فيها لا بنجاحه فى دروسه ولكن بمخالفته البالغة للنظام وبعد أن ألتحق بأحد المعاهد فى برايتون تقدم لإمتحان القبول بكلية هاور الشهيرة وعندما قدم ورقة إجابته على أسئلة الترجمة إلى اللاتينية كانت الورقة بيضاء بالرغم من ذلك قبل بالكلية
هل كان بإستطاعتها أن ترفض قبول أحد أفراد أسرة بتلك المكانة العريقة ؟
وفى النهاية وعندما يئس اللورد راندولف من معرفة ما يفعله بإبنه ألحقه بالأكاديمية العسكرية فى ساند هرست .
- القلم يختلط بالسيف
وهكذا وجد ونستون تشرشل نفسه وهو فى 20 من عمره ملازما فى الكتيبة الرابعة فرسان بجيش صاحبة الجلالة ولكن الوقت كان خالى من الحروب وكان السلام سائدا فى كل مكان عدا كوبا وقد نجح ونستون فى السفر إلى هناك مراسلا حربيا لصحيفة لندن ديلى جرافيك وتمكن من تغطية أنباء الحرب وفى عام 1897 بعث لصحيفة الديل تلجراف بوصف لحركة البعث الهندى وبعد ذلك بفترة قصيرة نجده فى صفوف الكتيبة 21 الرماة وهى فى طريقها إلى مصر .
قدم تشرشلبعد ذلك إستقالته من الجيش وتقدم للإنتخابات البرلمانية ولكنه لم يفز فيها فسافر كمبعوث خاص لصحيفة المورننج بوست إلى جنوب أفريقيا حيث كانت حرب البوير مستعرة وقد أدى أسلوبه فى مزاولة الصحافة عن طريق الإشتراك فى المعارك إلى وقوعه فى الأسر ولكنه تمكن من الهرب ورصدت جائزة لمن يقبض عليه حيا أو ميتا وقد كان لهذا العمل الجرئ أثره فى إزدياد شهرته فى إنجلترا فأستقبلته عند عودته إليها إستقبال الأبطال وفى عام 1900 تقدم للإنتخابات البرلمانية وفى هذه المرة فاز فيها وبعد جولة مؤتمرية فى الولايات المتحدة وفى إنجلترا بدأ حياته السياسية التى دامت 53 عاما تخللها أعظم أحداث التاريخ الحديث .
كان تشرشل عند بدء إنتخابه ينتمى لحزب المحافظين ولكنه أستقال من الحزب للإنضمام إلى حزب الأحرار على أثر خلاف سياسى حول سياسة التبادل الحر التى كان يعضدها بينما كان المحافظون يعارضونها وقد أعتبر هذا التحول من جانبه خيانة ومن جهة آخرى أتسمت حياته السياسية منذ بدايتها بموقف المتعنت نحو حق المرأه فى التصويت فقد كان من أشد معارضيه وأتخذت منه النساء هدفا لهجومهن ومع ذلك فإن مواقفه السياسية المكروهة بأعتراف أصدقائه أنفسهم لم تحل دون تعيينه فى عام 1906 وكيلا لوزارة المستعمرات .
وفى عام 1908 صار وزيرا للتجارة وفى عام 1910 سكرتيرا لوزارة الداخلية ثم وزيرا للبحرية فبدأ يدرك أن الحرب وشيكة الوقوع ولذلك فقد عمل على تدعيم البحرية وجعلها فى حالة إستعداد للعمل بمجرد إعلان الحرب العالمية الأولى غير أن تصرفاته كانت موضع إنتقاد وقد عزى إليه السبب فى الكارثة التى منين بها إنجلترا فى الدردنيل والتى بدلا من أن تؤدى إلى فصل تركيا عن أوروبا تسبب فى تدمير جيش بأكمله ولذلك فقد أضطر للتخلى عن منصبه كوزيرا للبحرية ولكن سرعان ما أسترد إعتباره وفى عام 1917 فاز مرة ثانية بعضوية البرلمان وتولى عدة مناصب وزارية من وزير للعتاد الحربى ووزير للدولة ووزير للحربية إلى وزير للطيران ثم وزير للمستعمرات .
وفى عام 1924 ترك تشرشل حزب الأحرار وعاد لأصدقائه القدامى المحافظين وفى الحكومة التى رأسها ستانلى بلدوين عين وزيرا للمالية طيلة خمس سنوات غير أن البلاد واجهت مشاكل إقتصادية وإجتماعية خطيرة وفى عام 1929 سقطت الحكومة التى كان تشرشل من أعضائها بسبب الأزمة الإقتصادية العالمية التى بدأت تستحكم .
- صوت فى الصحراء
كانت الفترة من 1929 إلى 1939 فترة أفول سياسى للرجل العظيم ومع ذلك فإن إهتمامه لم يضعف بأحداث الساعة وكان تصاعد الفاشية فى أوروبا يقلقه فأخذ يحذر الرأى العام وأعضاء البرلمان ثم كان مؤتمر ميونيخ سبتمبر 1938 الذى إشترك فيه رئيس الحكومة البريطانية مستر تشامبرلين ورئيس الحكومة الفرنسية المسيو دلادييه وتمخض عن تسليم إقليم السوديت (تشيكوسلوفاكيا) لألمانيا وعندئذ أعتلى تشرشل منصة مجلس العموم وخطب فى الأعضاء قائلا "لقد أخترتم العار وستكون لكم الحرب" وفى أول سبتمبر 1939 أكتسح الألمان بولندا وبعد ذلك بيومين أعلنت فرنسا وإنجلترا الحرب على ألمانيا وهنا أستدعى تشرشل لتولى وزارة البحرية وفى مايو 1940 تولى رئاسة الحكومة .
- الدم والعرق والدموع
كان تشرشل حريصا على أن يكشف عن حقائق الحرب وفى يونية 1940 ألقى خطابا قال فيه "ليس عندى ما أقدمه سوى الدم والعمل والعرق والدموع" وفى 18 يونيه 1940 تمكن من تغيير الإحساس النفسانى بالحرب وفى ذلك يقول "إن معركة فرنسا قد إنتهت وآمل أن تبدأ معركة إنجلترا إن هذه المعركة هى التى سيتوقف عليها بقاء الحضارة المسيحية" ثم ينجح تشرشل فى إدخال الولايات المتحدة الحرب وفى أغسطس 1941 إلتقى لأول مرة بالرئيس روزفلت ووقع معه ميثاق الأطلنطى وفى رحلاته العديدة وفى يالتا 1945 وضع زعماء الحلفاء مخططا عسكريا وقسموا العالم فيها بينهم وفى مايو 1945 تمكن الرجل الذى كان العالم الحر يعتبره رمزا للشجاعة والتضحية من أن يعلن لأوروبا إنتصار الحلفاء وأستسلام ألمانيا فى الحرب العالمية الثانية غير أنه إذا كان الإنجليز قد أختاروا تشرشل لقيادة الحرب فما أن إنتهت الحرب حتى إختاروا لأنفسهم قيادة آخرى وفى يوليو 1945 أصبح تشرشل فى صفوف الأقلية البرلمانية فتخلى عن مناصبه .
ومهما يكن من أمر فقد عاد إلى رئاسة الحكومة فى الفترة من 1951 إلى 1955 ولكن سياسته كانت تواجه معارضة متزايدة وقد أتهمه أعداؤه بأنه جزء من الماضى وأنه لم يعد يستطيع الإستمرار فى أداء مهامه السياسية وهكذا يعود ونستون تشرشل إلى العزلة السياسية ولقد تقدم به السن وأصبح جزءا من أسطورة كانت بريطانيا العظمى بأكملها تحتفل كل سنة بعيد ميلاده وأخذ تشرشل يكرس ما تبقى من حياته للأدب والتصوير وفى عام 1953 نال جائزة نوبل عن كتابه "مذكرات عن الحرب العالمية الثانية" .
وفى يوم 24 يناير 1965 أنطفأت الشمعة وأقامت إنجلترا جنازة قومية حمل فيها النعش ثمانية من رجال المدفعية الملكية وعبروا به بوابة كاتدرائية القديس بطرس فى لندن وخارج الكاتدرائية كان ينتظره خمسة ملوك وخمسة رؤساء دول و16 من رؤساء الحكومات وممثلو 121 دولة لقد بلغ التقدير للإنسان منتهاه ولم ترتفع أى أصوات تندد بالرجل الراحل إلا بعد وفاته ومع ذلك فإذا كانت معظم الإنتقادات تنصب على النظرة الضيقة والرجعية للقدرة التى كانت لتشرشل فإن نقدا واحدا لم يرتفع للتشكك فى شأن نشاطه وفى طريق الصراع ضد الفاشية