شارل ديجول


إن حكاما وقد تقابلوا إستطاعوا أن يستسلموا خاضعين للفزع متناسين الشرف تاركين البلد للإستعباد 
ومع ذلك فإننا لم نفقد شيئا 

فى 18 يونيو عام 1940 تدفقت جيوش هتلر على فرنسا وبدا إنتصار ألمانيا حتميا وفى حالة من الجمود والإستسلام للقدر شهد الفرنسيون سقوط بلدهم وحينئذ أرتفع صوت من إنجلترا على موجات هيئة الإذاعة البريطانية الــ BBC وألقى بنداء رنان للأمل والنضال .
من هو إذن هذا الرجل الذى قدر له أن يدخل التاريخ بهذا الخطاب القصير المدوى وخلق ما سمى بعد ذلك ديجولية الحرب ؟ 
إنه شارل أندريه جوزيف مارى ديجول من مواليد مدينة "ليل" فى 22 نوفمبر عام 1890 والده مدرس متواضع رسخ لديه إلى جانب شعور دينى عميق حب لوطنه وحب للتاريخ وكان المناخ الذى يسود فرنسا روح الثأر التى يغذيها هوان هزيمة عام 1871 يلائم هذه التأملات وشيئا فشيئا بدأ ديجول يشعر بقدره الخاص وشعر بأنه إن عاجلا أو آجلا سيلتقى طريقه بطريق بلده وأن الأمر سينتهى بأختلاطهما ولذلكأختار مهنة السلاح تقريبا كما يختار الإنسان دخول الدير وفى عام 1909 إلتحق بمدرسة "سان سير" العسكرية وفى عام 1913 أصبح ملازما فى فرقة المشاه 33 بقيادة كولونيل (عقيد) أصبح شهيرا فيما بعد هو فيليب بيتان وخلال الحرب العالمية الأولى أصيب شارل ديجول ثلاث مرات ما بين عام 1914 وعام 1916 وقد رقى إلى رتبة كابتن (نقيب) وأدرج أسمه فى لوحة الشرف فى الجيش وعندما أسر فى "دوامونت" حاول الفرار أربع مرات ولكن الألمان زجوا به فى "إنجوشتادت" فى قلعة فى بافاريا مخصصة لأصحاب الرؤوس الصلبة وقد بقى هناك لمدة 32 شهرا وأستغل فترة إعتقاله فى إعداد أول كتاب له "الخلاف لدى العدو" الذى صدر عام 1924 .
  • ضابط غير ملتزم 
فى عام 1921 تزوج ديجول من "إيفون فاندرو" وفى نفس العام كلف إلقاء دروس التاريخ العسكرى فى كلية "سان سير" وقبل فى العام التالى فى مدرسة الحرب وقد برز إتجاهه إلى عدم الإلتزام مما أدى إلى حصوله على تقدير جيد فى الإمتحانات النهائية ذلك أن الحلول التى إقترحها لحل المشكلات التكتيكية كانت منذ ذلك الوقت تخالف تيار النظريات الرسمية وفى السنوات التالية ضاعف ديجول من أنشطته من كافة النواحى وعندما عين قائد كتيبة نقل إلى "لوفان" ثم إنضم إلى الأمانة العامة للدفاع القومى وفى عام 1932 ثم فى عام 1934 أصدر كتابين هامين "حد السيف" و"نحو جيش محترف" وهى أعمال كبيرة إحتوت العناصر الأساسية لنظريته العسكرية التى تقوم على الدور الرئيسى لسلاح المدرعات وحرب الحركة .
وفى "المجلة السياسية والبرلمانية" كتب تفاصيل نظرياته الثورية وطالب بإصلاح عميق للجيش لمواجهة المخاطر المتمثلة فى الفاشية وفى النازية ولكن المعارضة لم تتمهل فعارض كل من "دلادييه" و"فيجاند" و"بيتان" ذاته هذا الإنقلاب فى تقاليد راسخة تماما وقد إنتهى الخصام مع بطل "فيردون" فى عام 1937 عندما ظهر كتاب ديجول الجديد "فرنسا وجيشها" ومع ذلك فقد إلتف فريق من المؤيدين من بينهم "بول رينو" حول المجدد ولكن الوقت كان متأخرا فإن ألمانيا كانت قد تسلحت بكفاءة عالية وكان الصراع قد أقترب وفى عام 1939 أصبح الكولونيل ديجول قائدا بالإنابة للمدرعات فى أركان حرب الجيش الخامس وقد شعر أن الحرب ستكون خاسرة وأنه لابد من الإستعداد لواحدة آخرى وكسبها على أسس جديدة وفى يناير عام 1940 قدم لعدد كبير من الشخصيات السياسية مذكرة تحت عنوان "ظهور القوة الميكانيكية" .
  • رفض الهزيمة 
وفى العاشر من مايو 1940 كان الهجوم الألمانى الكبير وقد تمكن ديجول الذى عين جنرالا بصفة مؤقته على رأس الفرقة الرابعة المدرعة تمكن من أن يطبق نظرياته العسكرية وقد توصل إلى جعل جيش الأعداء يتقهقر عدة مرات ولكن نجاحه المحدود لم يمنع الهزيمة الساحقة للجيش الفرنسى أمام فصيلة "بانتزر دفيزونين" والطيران الحربى الألمانى وكانت الكارثة على طريق الشمال والموكب الطويل للجنود المنزوعى السلاح تختلط بأمواج المدنيين الذين يفرون أمام الغزو وأمام هذا المشهد المحزن شعر ديجول "بثورة عارمة" كما ذكر هو ذاته ولكنه عقد العزم فى هدوء على مواصلة المعركة وفى يونيو دخل الوزارة كوكيل وزارة الحرب وكان رئيس الوزارة آنذاك "رينو" وعرض ديجول نظرياته عليه وبلغه بأنه يجب مواصلة المعركة فى البحر فالأسطول لم يمس فى أراضى الإمبراطورية وإلى جانب بريطانيا وكان "فيجاند" قد أصبح القائد الأعلى و"بيتان" نائب رئيس المجلس منذ 18 مايو فأعترضا على هذا المشروع وأعلنا أنهما يؤيدان الهدنة .
وفى 16 يونيو فى الساعة الرابعة والنصف بعد الظهر كان ديجول فى لندن وبعد أن تحدث مع تشرشل طلب "رينو" هاتفيا ورجاه ألا يتخلى عن الحرب ذاكرا أن هناك بيانا بريطانيا هاما سيصدر فى نهاية فترة بعد الظهيرة وسوف يقلب الموقف وكان الأمر يتعلق بجمع البلدين فى أمة واحدة بهدف واحد هو نمكين فرنسا من ألا توقع بالإستسلام وأن تواصل النضال إلى جانب إنجلترا ولكن مجلس الوزراء رفض هذا المشروع وقد صاح "كامبل شوتان" نائب رئيس المجلس "لا أريد أن تصبح فرنسا إحدى الممتلكات" وقد إستقال حينئذ "بول رينو" وعين المارشال "بيتان" مكانه وفى 17 يونيو أعلن رسميا طلب الهدنة وقد فزع ديجول وقرر أن يوجه من هيئة الإذاعة البريطانية الــBBC نداءه التاريخى يوم 18 يونيو .
وكان حتى ذلك الوقت رجلا بمفرده وبلا نفوذ فإن صرخته الثورية قد تبدولا قيمة لها إن إنجلترا هى الدعامة الحرة الأخيرة لأوروبا التى أصبحت مكبلة بالقيود وهى تحارب فى ظل صعوبات لا حصر لها فعلى أى شيئ وعلى من يعتمد ديجول لمواصلة المعركة بينما حكومة "فيشى" تعلن أنه جرد من رتبه وأحيل إلى التقاعد وأصدر ضده حكما من المجلس العسكرى بالإعدام وبالتجريد من رتبه وبالإضافة إلى ذلك فإن معظم ممتلكات ما وراء البحار قد أعترفت بشرعية وزارة "بيتان" ومن ناحية آخرى فإن هجوم الإنجليز على الأسطول الفرنسى فى المرسى الكبير حيث كانوا يخشون سقوطه فى أيدى الألمان أسقط البقية الباقية من المعارضين الموجودين فى الأسطول وأنضموا إلى حكومة "فيشى" وفى سبتمبر عام 1940 كانت الحملة التى قد توجهت لضم غرب أفريقيا الفرنسى قد أخفقت أمام دكار وعلى عكس ذلك فإن قائد فرنسا الحرة حصل فى الشهر التالى على إنضمام عدة أراضى فيما وراء البحار هى هيبريديز الجديدة وبولونيزيا والإدارات الفرنسية فى الهند وكاليدونيا الجديدة وجزء من أفريقيا وحينئذ أنشأ ديجول فى "برازافيل" مجلس الدفاع عن الإمبراطورية .
  • من الوحدة إلى النصر 
بدأت القوات الفرنسية الحرة F.F.L منذ ذلك الوقت تناضل بنشاط إلى جانب البريطانيين فى سوريا ولبنان حيث وقفت ضد جيش فيشى فى عام 1941 ولكن القوة التى يمثلها ديجول كانت ما تزال محدودة فى نظر الحلفاء وفى نظر روزفلت بصفة خاصة ولذلك فإنهما أعدا مع الجنرال "جيرو" فى عام 1942 عملية الإنزال الإنجليزية الأمريكية فى شمال أفريقيا .
أصبح عندئذ خطر إنقسام فرنسا المحاربة داخل الإمبراطورية خطرا حقيقيا فإن شخصية ديجول التى كان من الممكن فى أحلك الساعات أن تتقمص روح المقاومة ذاتها عالجت هذه الإنقسامات بأفضل ما يمكن ففى مؤتمر الدار البيضاء 1943 حيث دعى بعد تردد طويل وتحت ضغط الرأى العام قبل بناء على إلحاح تشرشل وروزفلت أن يقابل جيرو وتحت رئاستهما تم تأسيس اللجنة الفرنسية للتحرر القومى C.F.L.N وبذلك تم دمج القوات الفرنسية الحرة وبعد فترة قليلة تمكن ديجول من أن يصبح الممثل الوحيد للمصالح الفرنسية وأصبح الرئيس الوحيد للجنة الفرنسية للتحرير القومى أما داخل فرنسا فإن تشدد الإحتلال من إستقطاعات مالية وتمزق إقتصادى وخدمات عمل إجبارية وإضطهاد عنصرى أثار الوعى فى جزء من الرأى العام الفرنسى وبدأت حركة المقاومة تتسع وأنتشرت عمليات الفرار وعاد المجلس القومى للمقاومة C.N.R بإدارة "جان مولان" ليضم بعضا من الإشتراكيين وكذلك بعض ممثلى اليمين وأعترف بديجول رئيسا وحيدا له .
وقد أثارت عملية الإنزال فى إيطاليا وغزو شبه الجزيرة عام 1943 والتى شاركت فيها الجيوش الفرنسية وإنسحابا أوليا لقوات المحور فى أوروبا الغربية وأمتدت حرب العصابات إلى كافة البلاد المحتلة ومكافحة القوات الألمانية ومفضية بذلك إلى خفض روحها المعنوية شيئا فشيئا وفى عام 1944 أصبحت اللجنة الفرنسية للتحرير القومى الحكومة المؤقته للجمهورية الفرنسية وأصبح ديجول رئيسها وحينئذ بدأت الأحداث تتوالى فمنذ عملية الإنزال المشتركة فى نورماندى عاد ديجول إلى أرض فرنسا بعد أربع سنوات من المنفى والمحن وقد تحررت باريس الثائرة فى 24 أغسطس وفى اليوم التالى أستقبل فيها إستقبال المنتصر وأسس فيها حكومته المؤقته وقد أعترف بها بعد ذلك بقليل كل من الإتحاد السوفييتى وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية .
وفى عام 1945 بدأت أعمال مؤتمر يالتا بحضور الحلفاء الثلاث الكبار روزفلت وتشرشل وستالين دون أن يدعى ديجول لحضوره ولذلك أعلن أستنكاره العنيف لتقسيم العالم لمناطق نفوذ وأستطاع أن يحصل على منطقة إحتلال فرنسية فى ألمانيا المهزومة وكذلك على مقعد دائم فى مجلس الأمن التابع لمنظمة الأمم المتحدة وقد إستطاع ديجول أن يبرهن على صفاته المتميزه كرجل إستراتيجية وكقائد عسكرى وقد أتى له بعد ذلك وقت السلم بإنتصارات جديدة وكذلك بخيبات أمل جديدة فقد أراد أن يزود فرنسا بسلطة تنفيذية قوية ولذلك فقد طرح للإستفتاء فى 21 أكتوبر عام 1945 إلغاء دستور الجمهورية الثالثة وتم تفويض مجلس تأسيسى لوضع دستور جديد وفى نوفمبر عام 1945 أنتخب ديجول بالإجماع من قبل المجلس التأسيسى رئيسا للحكومة المؤقتة وقد وضع المجلس القومى للمقاومة برنامج إصلاح إجتماعى فى السر وأعتمد تقريبا بلا أية معارضة من المجلس الذى كان وضعه يساريا تماما ولكن بعد ذلك بقليل رأى ديجول نظام الأحزاب يعود شيئا فشيئا مما يشابه نظام الجمهورية الثالثة وبعد الإبتهاج بالتحرير وقع ما كان يخشاه فقد بدأ من جديد سلوك ما قبل الحرب العالمية الثانية ولما كان ديجول لديه فكرة معينة عن فرنسا فقد رفض التساهل فى هذه النقطة وبعد أن أدى المهمة التى عهد بها إليه ترك السلطة فى يناير عام 1946 وبعد ذلك بستة أشهر فى يونيو ألقى خطابه فى مدينة بايو حيث أعرب عن نظرياته السياسية ورسم الخطوط العريضة للنظام المقبل لحكومة الجمهورية الخامسة وأخذ من جديد موعدا مع التاريخ .