الحرب الباردة

إن الحرب الباردة التى نبتت فى الأيدولوجيات القديمة وتخللت المصالح المتعارضة لحلفاء الأمس وأصبحت تسمم الإنسانية فى الحقبة الأخيرة من القرن العشرين 
إن هذا التعريف الذى وضعه الصحفى الفرنسى أندريه فونتين فى كتابه "تاريخ الحرب الباردة" يتفق مع الوقائع التاريخية وإن كان فى حاجة للإستكمال فقبل أن تضع الحرب العالمية الثانية أوزارها كان يشوب الحلفاء جو من الريبة والحذر لدرجة أن هتلر ظل لفترة طويلة يراوده الأمل فى حدوث إنقلاب عام فى الموقف يتيح للقوات الألمانية أن تحارب إلى جانب أو آخر من أعدائها .
  • مفهومان للعالم 
كان يتزعم الدولتين الكبيرتين المنتصرتين فى الحرب وهما الولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد السوفييتى رجلان لم يقتصر الأمر على تعارض مفهوميهما للعالم ولكن هذين المفهومين كانا أبعد من أن يتلاقيا فكان رئيس الولايات المتحدة فرانكلين روزفلت ينحدر من أسرة أرستقراطية أمريكية فى مجال السياسة والأعمال وقد نشأ فى إطار من تعاليم الإنجيل وأضاف إليها تعاليم الماسونيين الأحرار وكانت الديموقراطية فى رأيه هى أفضل نظم الحكم ويجب عليها أن تضمن الحرية والمساواة والإخاء العالمى بإنتهاج مبدأ التسامح المتبادل بين الناس والأفكار .
أما جوزيف فيساريو نوفيتش جوجاشفيلى الذى أطلق عليه فيما بعد إسم ستالين فكان إبنا لأسرة متواضعة من منجريليا بالقوقاز بدأ شبابه المبكر ثائرا محترفا وكان من أنصار لينين ومنه أخذ عن كارل ماركس وتشبع "بالإعلان الشيوعى" وكان فى الواقع يرى أن الحرب بين الطبقات حرب دائمة وحتمية وأن العالم الرأسمالى لا يمكنه أن يتحمل قيام الدولة الإشتراكية .
وعندما تحالف ستالين مع هتلر لم يكن ذلك إلا لإعتبارات تكتيكية وكان يرى فى كسب الوقت والإنتظار إلى أن تضعف قواه هو وأعداؤه لكى يستطيع عندئذ التدخل فى اللحظة المناسبة ولم يكن ستالين يفرق بين هتلر وروزفلت فكلاهما بالنسبة له ممثلان للدول الرأسمالية التى يجب أن يحطمها وكان ستالين دائم اليقظة والحذر وعندما قدم روزفلت مشروعه الديموقراطى وأشتم ستالين من ورائه فخا فلم يكن من الممكن قيام تفاهم بين الرجلين أو بعبارة آخرى بين مفهومى العالم .
كان روزفلت يتصور أن ستالين سينضم إلى الديموقراطية التى هبت لمساعدته وكان هذا يود أن يتعهد بكل ما يطلب منه ولكنه لم يكن ينوى إحترام تعهداته ورأى روزفلت أن للإتحاد السوفييتى الحق فى الحصول على نصيبه من الغنيمة إذ أن ستالين وعد بأن يقيم الديموقراطية حيثما وجد الجيش السوفييتى أما بالنسبة لستالين فكانت فرصة لإقامة الإشتراكية على نطاق أوسع فى العالم وعلاوة على المشاكل السياسية فإن الحذر الكامن لدى ستالين لم يكن بالإمكان نقضه وجاء ترومان وهو ماسونى أيضا وكان يؤيد مبادرات روزفلت ولكنه كان أقل منه مثالية ولم يكن يؤمن بإمكان تحويل أفكار ستالين الذى كان بدوره يرى فى ترومان الرأسمالية المجسمة كما أن ترومان كان هو الآخر على حذر .
  • من يالتا إلى بلغراد 
فى يوم 11 فبراير 1945 فى يالتا أجرى الأمريكيون والسوفييت تقسيم مناطق النفوذ ولم يتركوا لبريطانيا سوى منطقة فائضة كانت تشمل اليونان ويوغوسلافيا ولم يكن هذا التوزيع يعطى إعتبارا لزعيم الشيوعية اليوغوسلافية تيتو الذى لم يقبل سوى تنازلات بسيطة فى إتفاقه مع الملك اليوغوسلافى حين كان فى منفاه بمدينة القاهرة وعندما جاءت ساعة التنفيذ رفض تيتو التعاون مع البرجوازية كما حدث ذلك أيضا فى كل من المجر وبولندا ورومانيا وبلغاريا وتشيكوسلوفاكيا وأستأثر تيتو بالحكم بأسم الشيوعيين وكان ذلك من بوادر التمزق وعندئذ بادر الغربيون بإتهام ستالين بخداعهم ولم يكن الزعيم السوفييتى العجوز بأقل جرحا وهو لا يستطيع أن يصرح بأن تيتو قد أعلن التمرد فعلا .
كان الشيوعيون فى العالم الغربى يطيعون ستالين وأشتركوا فى الحكومات الإئتلافية فى كل من فرنسا وإيطاليا وبلجيكا ولكسمبرج والدنمارك وفنلندا أما فى الدول الشرقية فقد أستغل الشيوعيون وجود القوات السوفييتية بها ووسعوا من رقعة نشاطهم دون أعتبار لحلفائهم البرجوازيين الذين أبعدوهم عن السلطة وسرعان ما أقتصر النظام الديموقراطى على تشيكوسلوفاكيا وكان الحزب الشيوعى يستطيع أن يسمح بذلك إذ كانت له قوة شعبية فائقة .
  • خطاب فولتون 
إعتبارا من 5 مارس 1946 أخذ تشرشل يندد بنقض إتفاق يالتا وكان أول تنديد له فى خطاب مثير ألقاه فى فولتون بالولايات المتحدة قال فيه "لقد أقيم ستار حديدى فوق القارة يمتد من ستيتين إلى تريستا إننى واثق من أن الروس لا يعجبون بشيئ قدر إعجابهم بالقوة ولا يحقرون شيئا قدر تحقيرهم للضعف العسكرى " وأستطرد تشرشل قائلا "يجب على الشعوب الناطقة بالإنجليزية أن تتحد بأسرع ما يمكن للقضاء على كل ميل للطمع أو للمغامرة" كان الزعيم البريطانى المحافظ قد ترك الحكم ولكن الإنجليز كانوا يشاركونه أفكاره كما زاد غضبهم ضد الإتحاد السوفييتى لقيام تيتو بمساندة الحرب الأهلية للشيوعيين اليونانيين ضد النظام الحاكم وهم لا يزالون يجهلون أمر سوء التفاهم القائم بين موسكو وبلغراد وكان ترومان الذى خلف روزفلت حاضرا أثناء إلقاء تشرشل لخطابه ووافق على ما جاء به .
  • كان ذلك هو إعلان الحرب الباردة 
كان ستالين يعتبر تشرشل رجعيا يميل للتحرش ألم يستخدم الإنجليز فى بداية الثورة الروسية سياسة ذات وجهين عندما فرضوا "الحصار الصحى" الذى أدى إلى عزل روسيا عن التدخل العسكرى وبالتالى بالإشتراك مع الفرنسيين عن مساندة "الحرس الأبيض" الذى كان يسعى لإعادة القيصرية ؟ وكان لستالين إعتراض آخر على تشرشل إذ أن هذا الأخير حاول فى أحلك مواقف الحرب أن يقنع روزفلت بعدم فتح الجبهة الثانية بإنزال قوات فى نورمانديا ولكن عن طريق اليونان والبلقان وبذلك تستطيع قوات الغرب أن تصل بسرعة إلى برلين فاصلة بذلك أوروبا إلى قسمين دون أن تضطر لمواجهة "حائط الأطلنطى" الذى أقامه هتلر على سواحل نورمانديا وكان لتلك الخطة فائدة آخرى إذ أنها كفيلة بحرمان السوفييت من إحتلال أوروبا الشرقية قبلهم غير أن روزفلت رفض هذا الرأى فى حين وافق ستالين على بدء المفاوضات مع هتلر فى السويد بقصد عقد صلح منفرد ولكن المحاولة فشلت لأن هتلر كان يريد الإحتفاظ بأوكرانيا وسرعان ما أدرك الحلفاء الضربة التى يعد لها .
كان رد فعل ستالين على خطاب فولتون عنيفا فأتهم ترومان بالإستعداد لشن حرب ذرية على الإتحاد السوفييتى وقام بزيادة الضغط لإبعاد الشركاء البرجوازيين عن الحكومات الشيوعية فى دول الشرق أما فى الغرب وفى نفس الأسبوع فقد إنسحب الوزراء الشيوعيون من الحكومات التى كانوا أعضاء فيها وأنتقلت كافة الأحزاب الشيوعية إلى صفوف المعارضة النشطة أما ترومان فقد قام من جهته فى 11 مارس 1947 بمد اليونان وتركيا بالمعونة العسكرية ومن الكلمات والنوايا إنتقل المعسكران إلى العمل ويجرى الإشتباك بين الأشخاص الذين أتخذوا مقرهم فى اليونان حيث كانت الحرب الأهلية مستعرة .
  • المشكلة الألمانية 
كانت الأمور تتعقد فى كل مكان لقد أصبحت ألمانيا نقطة خلاف كما كانت الحال مع يوغوسلافيا وكانت إتفاقية وقف القتال فى عام 1945 تنص على قيام نظام مؤقت على شكل حكومة رباعية تضم فرنسا وإنجلترا والولايات المتحدة والإتحاد السوفييتى وكان الأمر يهدف إلى الإسراع بإقامة حكومة ألمانية فأخذ الروس ينظمون منطقتهم وبدلا من الوحدة الألمانية المنتظرة كان الوضع يسير نحو تقسيم ألمانيا إلى حكومتين متميزتين وأخيرا لم تعد برلين عاصمة ألمانيا ولكنها أعتبرت حكومة ثالثة ناتجة عن التنظيم الرباعى وفى عام 1949 أصبغت الصفة القانونية على الوضع بإقامة دولتين متعارضتين وهما جمهورية ألمانيا الإتحادية مقرها بون ويؤيدها الغرب وجمهورية ألمانيا الديموقراطية ومقرها بانكوف إحدى الضواحى القريبة من برلين وتخضع للسيطرة السوفييتية .
  • مشروع مارشال وإنقلاب براغ 
إقترح جورج مارشال وزير خارجية الولايات المتحدة فى 5 يونية 1947 مشروعا لمساعدة الدول الأوروبية التى أضيرت من الحرب دون تفرقة بين الكتلتين وستكون المساعدة مجانية ولا تقتضى أى مقابل أما بالنسبة لستالين فكان يرى فى هذا المشروع فرضا لا يحتمل للرأسمالية الأمريكية على الإقتصاد الأوروبى بأكمله وعلى ذلك أصدرت موسكو تعليماتها لكافة دول الكتلة الشرقية برفض المشروع كانت فنلندا تتمناه ولكنها رفضته أما تشيكوسلوفاكيا فكانت هى الوحيدة التى خرجت على الإجماع لأن كان رئيسها بينيس يصر على الإعتقاد بأن بلاده مستقلة وفى عام 1948 حدث فيها إنقلاب ورفضت تشيكوسلوفاكيا مشروع مارشال لقد وقفت جميع الدول الشرقية خلف الإتحاد السوفييتى فى حين وقفت جميع دول أوروبا الغربية خلف الولايات المتحدة ثم كان حلف الأطلنطى وتنظيماته العسكرية الناتو فى 4 أبريل 1949 نشر المظلة الآلية الأمريكية فوق أوروبا الغربية لضمان سلامتها وفى عام 1954 تكون حلف وارسو فوحد بين الجيوش الأهلية لدول الشرق تحت القيادة السوفييتية .
  • تقلبات الحرب الباردة 
كانت نذر الحرب العالمية تبدو قريبة ولكن توازن الرعب الذرى حال دون المتنافسين والمواجهة المباشرة وكانت أهم مظاهر النزاع هى :
حصار السوفييت لبرلين الغربية والرد الأمريكى السريع بإقامة جسر جوى يصل برلين بباقى أجزاء العالم يونيه 1948 ـ مايو 1949 
تطهير الأحزاب الشيوعية فى دول الكتلة الشرقية على يد قوات الشرطة الموالين للإتحاد السوفييتى 1949 ـ 1951 
ثورة العمال فى برلين الشرقية وثورة المجر 1956 وقد سحقت كلتاهما بوساطة القوات السوفييتية 
إقامة قواعد إطلاق الصواريخ السوفييتية فى كوبا 1962 وتلاها إنذار أمريكى بضرورة سحبها فورا 
غزو قوات حلف وارسو لتشيكوسلوفاكيا الشيوعية فيما عدا رومانيا 20 أغسطس 1968 
هذا بخلاف القلاقل الفرعية مثل الحرب الطويلة فى كوريا وفى فيتنام وحرب الشرق الأوسط .
  • التعايش السلمى 
إنتهت الحرب الباردة بالزيارة الودية التى قام بها نيكسون لموسكو فى عام 1972 ثم زيارة بريجنيف لواشنطن فى يونيو 1973 وحلت لحظة التعايش السلمى وكان ستالين قد أشار إلى هذا التعايش فى المؤتمر 21 للأحزاب الشيوعية 1952 بقوله "إن العالم الرأسمالى سوف يتداعى فوق التناقضات الداخلية وإلى أن يحدث ذلك يجب أن نعمل على تنظيم التعايش السلمى ومعناه التنافس الدائم بين النظامين وهو ما لابد أن ينتهى بإنتصار الإشتراكية" .